القبائل اللبنانية المتحدة

TT

سقطت ورقة التوت ... يوم الأحد الماضي، ولم يحدث أن كان اللبنانيون عراة، مكشوفي العورات والعاهات، كما حدث خلال الانتخابات النيابية الفرعية الأخيرة. ومع ان الاقتتال كان على مقعدين نيابيين اثنين فقط، لمجلس نيابي معلقة أعماله ومشلولة إلى ما شاءت الأمزجة، إلا ان الفرقاء استنفروا كل عتادهم العدواني والعشائري، وشحذوا ألسنتهم، واستذكروا أيام كانوا يمتشقون السلاح بشيء من الحنين.

اختلطت الديموقراطية بالقبلية، والأوربة بالقيم المحلية، ولم نعد نعرف هل نحن في انتخابات فرعية نيابية لدولة مسيحية في المتن ولأخرى سنية في بيروت أم أننا، ما نزال في حمى الجمهورية اللبنانية. فها هو رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، يتحدث لمناصريه في بيروت، عما أسماه «تجديد البيعة للرئيس الشهيد رفيق الحريري» بانتخاب من يمثل خطه السياسي بعد رحيله. و«البيعة» مصطلح إسلامي يعيدنا إلى القرون الأولى للهجرة، بدل أن يجعلنا نشيح بنظرنا إلى الأمام باحثين عن «المستقبل» الذي يحمل اسمه التيار.

اما الرئيس أمين الجميل في المتن، فرغم ان أوراق الصناديق لم تكن لصالحه، ولو بفارق ضئيل يفصله عن مرشح التيار العوني، إلا انه لم يعترف بالمفهوم الحديث للاقتراع، وفضل ان يعتبر العملية برمتها لا «انتخاباً»، كما يقول بذلك الدستور وإنما «استفتاء» للمسيحيين ـ وعلى الأصح للموارنة فقط ـ على اختيار زعامتهم. وهكذا لم يعترف الرئيس الأسبق للجمهورية اللبنانية بأصوات الأرمن الكاسحة التي أوصلت العوني كميل خوري للمقعد النيابي، واعتبر نفسه فائزاً رغم انه بالحسابات الرياضية خسر. لكن ما يهم أمين الجميل، هي أصوات طائفته الأضيق، متناسياً أنه لبناني أولاً، ومسيحي كالأرمن، وفضل التقوقع على مارونيته الضيقة، لأنها الطريق الأقصر الذي يوصل إلى رئاسة الجمهورية المأمولة.

وبفعل تداخل المفاهيم، وفوضى الذهنيات، وادعاء الحداثة مع التشبث بمداميك القبيلة، جاءت النتائج الرسمية واضحة، لكن قراءتها من قبل الأطراف السياسية، اقل ما يقال فيها أنها تثير الاستهجان. فمرشح التيار العوني اعتبر نفسه فائزاً في المتن لأن علم الحساب يقول ذلك، وأمين جميل قال انه فاز ايضاً لأن غالبية الموارنة اقترعوا له، وهذا هو ما يستدعي الفخر في حساباته. اما الرأي الثالث فهو لرئيس الوزراء السابق سليم الحص الذي قال ان «انتخابات المتن انتهت سياسياً بلا غالب ولا مغلوب، فكان هناك خاسر ولكن لم يكن هناك منتصر».

ومنذ البدء، انطلقت هذه الحملة الانتخابية، بدائية المفردات، واستعملت من القاموس، ما يليق بالأعراب في مضارب الصحراء. فأعلن عن الانتخابات، لكن قيل في الوقت نفسه، ان القيم والعادات اللبنانية، تمنع التنافس على المقاعد، من قبل الفرقاء. اما كيف يمكن للديموقراطية ان تتصالح مع العادات المحلية، فهذا تم تفسيره لنا بوضوح لا لبس فيه. فمن غير اللائق أن لا يحفظ لبيت الجميل الكرسي الذي أخلاه فقيدهم الشهيد بيار جميل. ففي العرف اللبناني، وراثة الآباء للأبناء أو العكس، في البيوتات السياسية يجب ان تحفظ وتحترم. وهكذا فإن العماد ميشال عون الآتي من طبقة متوسطة، بدا وكأنه اعتدى على الأصالة والعراقة التي يمثلها آل الجميل، وهو الآتي، من حارة شعبية إلى كنف السياسة.

لم يسبق للبنانيين أن تحدثوا عن الأصل والفصل، في انتخابات، كما فعلوا هذه المرة. فالأرمن المجروحون من اعتبار أصواتهم وكأنها تستخدم فقط، استخداماً رخيصاً لترجيح كفة هنا، أو كسر ساعد هناك، أصدروا بياناً يقولون فيه «من المستهجن أن يسمح البعض لنفسه بالتمييز بين أبناء الطائفة الأرمنية وسائر المسيحيين، في حين أن الأرمن اعتنقوا المسيحية كدين دولة منذ أكثر من 1700 سنة. والأنكى أيضاً، أن ثمة من أراد تذكير أمين الجميل أن أصوله تعود إلى مصر، رغم ان السيد الرئيس يباهي بمنزل العائلة المبني من حجر وقرميد، مما يوحي بأن جذوره ضاربة في هذه الأرض الصخرية.

ورغم ان غالبية الأحزاب اللبنانية تعشق ان تقرن اسمها بكلمات من صنف «حرية» و«ديموقراطية» و«وطنية»، وتتشدق بانفتاحها على كل الطوائف والأفكار، وتتباهى بالتعددية اللبنانية الفريدة، إلا ان الأعمال تنسف الأقوال وتحيلها فتاتا. ويسجل للعماد عون رغم انه ينزل بخطابه إلى ما تحت «الزنار» أحياناً، انه أقلهم عشائرية، عن قلة حيلة أم هو يستخدمها وسيلة، لا أحد يدري. فقد قال سلفاً «نريد معركة انتخابية لا معركة عصي، كما ظهرت على الطرقات» سابقاً. لكن حين يجد الجدّ، فالجنرال لا يستهان به فهو الذي قال أيضاً: «من سيمد يده علينا سنكسرها».

وبالنتيجة، ففي منطقة المتن لم يقبل أي طرف الخسارة، وكاد الجنرال عون ينزل بانصاره إلى الشوارع ليتظاهروا احتجاجاً، وهو ما حدث فعلاً، لو لم تعلن نتائج الصناديق لصالحة.

كل هذا الاقتتال المسيحي ـ المسيحي، هذه المرة، هو في سبيل تمهيد الطريق لرئاسة الجمهورية، امام الماروني الأصلب عوداً بين جماعته. لكن الحقيقة المرة هي غير ذلك. فبالمفهوم الديموقراطي ـ اللبناني، المطلوب اليوم هو رئيس توافقي. وهذا يعني ان التنافس ممنوع، والبرامج ملغية من القاموس السياسي. وبالتالي، ففي أحسن الأحوال يتم الاتفاق بين الطوائف على رئيس بعينه، ويذهبون به إلى المجلس النيابي للتصويت له أمام الكاميرات. وحينها، سيصفق جورج بوش فرحاً وانتصاراً، وتهلل فرنسا لطفلها الشرقي المدلل الذي تربى في عزها، ونشأ وفياً لمبادئها الحرة. ولن يتحدث أحد عن كل المخالفات المشينة والمهينة التي تنبذها أصغر ديموقراطيات العالم، وأكثرها بدائية. وليس في ذلك عجباً، ألم تصفق أميركا لما حدث في المتن، كما فعلت فرنسا، ولم يقل أي احد ان العار يلف لبنان بعد كل الذي حصل، واللعنة ستبقى تلحق باللبنانيين جميعاً، إلى ان يقرروا إما العودة إلى البغال والحمير، او ركوب قطار الحداثة بكل ما تستدعيه المغامرة من نسف لتقاليد القبيلة[email protected]