باكستان: المعارضة لا الطوارئ تنقذ حكم مشرّف

TT

احتفلت باكستان هذا الأسبوع بالذكرى الستين، لإنشائها كدولة مستقلة، وكأنه لم يكف الباكستانيين ما مروا به هذا العام من مشاكل أمنية (المسجد الأحمر) والمصاعب التي تواجه الرئيس برويز مشرّف، فما ان انطلقت الألعاب النارية وأضاءت السماء فوق مبنى البرلمان في إسلام آباد حتى هطلت الأمطار بغزارة وحولت الشوارع إلى مستنقعات تعج بالوحل.

جاءت ذكرى الاستقلال هذا العام، بعد أسبوع من الارتباك أحاط بالرئيس الباكستاني بسبب احتمال إعلانه حالة الطوارئ. ففي ظرف 24 ساعة تم تسريب حالتين متناقضتين، فقبل ظهر الأربعاء الثامن من الشهر الجاري قال زعيم «حزب الرابطة الإسلامية» في التحالف الحاكم تشودري حسين إن الحكومة الباكستانية أنهت الخطط لإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وفسر كثيرون هذا القرار بأنه خطوة غير مدروسة للإبقاء على مشرّف في الحكم.

لكن في الساعات الأولى من فجر التاسع من الشهر الحالي، وبدل الإعلان عن فرض حالة الطوارئ وكان متوقعاً إعلانها عند الثالثة فجراً، ألغى مشرّف كل شيء. كان التفسير الرسمي أن الرئيس رفض نصيحة مستشاريه القانونيين الذين شجعوه على فرض حالة الطوارئ. لكن هذا التفسير لم يكن مقنعاً، إذ كيف ينصح مستشارون قضاة بمثل هذه النصيحة في وقت كانت المحكمة العليا في باكستان تلغي، في سابقة لم تحدث في باكستان، قرارات كان اتخذها الرئيس/ القائد الأعلى للقوات المسلحة.

في ظل هذا الارتباك، تسربت معلومات متناقضة، منها أن إعلان حالة الطوارئ سيصبح ساري المفعول بعد منتصف ليل الثامن من الشهر، ثم تلاها نبأ يقول إن القرار سيُعلن عند الساعة الثالثة بعد منتصف ليل الثامن من آب، وان حالة الطوارئ ستبقى لمدة سنة، ثم تسربت أخبار أن الحالة قد تبقى لمدة ثلاثة اشهر وتشمل مناطق محددة فقط. في هذه الاثناء وعند الساعة الثانية بعد منتصف ليل الثامن وبالتوقيت المحلي، اتصلت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس بالرئيس مشرّف وحثته على عدم فرض حالة الطوارئ، وصباح الخميس الماضي قال شوكت عزيز رئيس الوزراء ان الحكومة فكرت في الأمر لكنها قررت رفض إعلان حالة الطوارئ. إلا أن سيد مشاهد حسين أمين عام «حزب الرابطة الإسلامية» الموالي لمشرّف قال: إن الذين نصحوا الرئيس بفرض حالة الطوارئ هم أنفسهم «غير الكفوئين» الذين نصحوه بتعليق عمل رئيس المحكمة العليا القاضي افتخار تشودري في التاسع من آذار (مارس) الماضي.

حالة التردد هذه التي يعيشها حاليا الرئيس الباكستاني ظهرت واضحة في الأيام الأخيرة، إن كان في إعلان حالة الطوارئ او التحول عن هذا الإعلان، أو في مشاركته في أعمال مجلس الجيرغا المشترك الذي عقد في كابول، حيث ان المؤتمرين ظلوا مدة أربعة أيام يتساءلون عما إذا كان الرئيس مشرّف سيحضر أم لا، وهو حضر في الجلسة الأخيرة.

قد تكون الأزمة التي يشعر مشرّف انه يتخبط بها، سببها ما بلغه من دون شك، من ان قادة المجموعة الدولية ـ الولايات المتحدة بشكل خاص ـ بدأوا التشكيك في «أهمية» مشرّف كحليف أساسي في الحرب على الإرهاب، وهم يستمرون في كيل المديح له في العلن، في وقت بدأوا يدرسون الخيارات المتوفرة أمامهم في حال رحيله، ثم إن واشنطن بالذات صارت «تغازل» زعيمة «حزب الشعب» بنازير بوتو، كبديل محتمل لمشرّف، وبوتو تواقة للعودة والمشاركة في السلطة لأنها تدرك، ان بقاءها خمسة أعوام أخرى خارج باكستان وخارج السلطة يعني نهاية «حزب الشعب» الذي بدأ فعلاً يتفكك ويفقد رصيده لدى الرأي العام الباكستاني. ثم هناك الجيش.

حتى الآن يستمر الجيش في دعمه لمشرّف، وهناك ثلاثون جنرالاً يدينون له مباشرة بالوصول الى هذه الرتب العالية، لكن مع قوة ولائهم الشخصي له، بدأت تلوح بعض الاشارات التي تدل على شكوكهم بعدم قدرته على ادارة الازمة السياسية التي تعيشها باكستان منذ شهر آذار (مارس) الماضي، مما ادى الى تدهور في شعبية الرئيس، وانعكاس هذين الأمرين على سمعة الجيش كمؤسسة قوية. وحسب مصادر مطلعة، فان كبار الجيش نصحوه بالتخلي عن فرض حالة الطوارئ، فأصغى لنصيحتهم.

الارتباك الذي بدأ يغلّف تصرفات مشرّف، يعود إلى التحدي المستمر لسلطته ومصداقيته الذي تُقدم عليه المحكمة العليا، فهي بعد إعادة تثبيتها رئيس المحكمة العليا افتخار تشودري في منصبه بأكثرية 10 أصوات مقابل ثلاثة، بعدما كان مشرّف علق عمله في التاسع من شهر آذار (مارس) الماضي، قررت المحكمة العليا في الثالث من هذا الشهر إطلاق سراح جويد هاشمي بكفالة، وهو الشخص المقرب من رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف. وكان هاشمي اعتقل في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2003، بعدما عقد مؤتمراً صحفياً قرأ خلاله رسالة قال انه تسلمها بالبريد من قبل بعض الضباط العسكريين في القيادة العليا، يدعون فيها إلى التحقيق في حالات الفساد المستشري في القوات العامة المسلحة، وينتقدون فيها مشرّف وعلاقته بالرئيس الاميركي جورج دبليو بوش.

وفي نيسان (ابريل) عام 2004 صدر الحكم على جويد هاشمي بالسجن مدة 23 عاماً بتهمة التحريض على التمرد في المؤسسة العسكرية وتزوير بعض المستندات.

المؤشر الآخر الذي اقلق مشرّف كان أيضا قرار المحكمة العليا دراسة العريضة المقدمة من نواز شريف نفسه ويتساءل فيها عن مدى شرعية عدة قرارات تنفيذية اتخذها مشرّف ضد شريف، منذ تسلم السلطة بانقلاب ابيض في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 1999، وتتضمن هذه القرارات: إبعاد نواز شريف عن باكستان، ومنعه من ترشيح نفسه للانتخابات.

وأثارت بعض الملاحظات التي أطلقها عدد من القضاة خلال جلسة الاستماع، الخوف من احتمال ان تُقدم المحكمة العليا على إصدار حكم ضد مشرّف في هذه القضية أيضا. لأنه إذا اعتبرت أن قرارات مشرّف بحق نواز شريف غير دستورية، فان هذا يمكن أن يصيب حكم مشرّف كله أي منذ تسلمه السلطة، بالتصدع.

من هنا جاءت نصيحة بعض مستشاريه المدنيين والأمنيين، بأنه يستطيع أن يحمي نفسه من تداعيات هذه الأزمة الجديدة، باللجوء الى فرض إعلان الطوارئ بحجة تردي الأوضاع في المناطق القبلية وفي المقاطعة الحدودية بسبب ازدياد عمليات الجهاديين الإرهابية والتي هي في تصاعد منذ عملية «المسجد الأحمر».

لكن المطلعين على الدستور الباكستاني يقولون، إن الدستور يسمح للرئيس بإعلان حالة الطوارئ في حال تعرضت باكستان لخطر خارجي من دولة أخرى، أو في حال تعرض أمنها الداخلي للخطر من قبل عناصر غير وطنية. لكن الحكومة الباكستانية لا تستطيع أن تتهم الهند في هذه الحالة بأنها تهدد امن باكستان، خصوصاً أن العلاقات بين الدولتين تتجه إلى التحسن الفعلي، أما بالنسبة للأمن الداخلي، فان من قاوموا في «المسجد الأحمر» هم باكستانيون وليس عناصر ينتمون إلى منظمات أجنبية. ثم إن المشاكل الأخيرة في شمال وزيرستان حيث قتل خمسة جنود وأعلن عن تسعة مفقودين قام بها جهاديون يستطيع مشرّف لو أراد فعلاً، أن يقضي عليهم، وهذا لا يستدعي فرض حالة الطوارئ في البلاد.

في الواقع، شعر مستشاروه انه في حاجة إلى فترة لقانون الطوارئ من اجل أن يقضي على الحالة السياسية القائمة حالياً في باكستان والتي تكبله، ثم ليعلق عمل السلطات القضائية في المسائل التي تتعلق بالأمن القومي ومنها إعادة انتخابه رئيساً من قبل مجلس النواب الحالي، وليتخلص من الأعضاء المتشددين في القضاء.

لكن جاء من ينصحه، من الضباط العسكريين بأن إعلان حالة الطوارئ سيراها الرأي العام الباكستاني والأحزاب السياسية بأنها محاولة لحماية تمسكه بالسلطة، وهذه قد تؤدي إلى مظاهرات في الشوارع تطالب بالإطاحة به.

ان الدوامة التي يتخبط بها مشرّف، لا يُحسد عليها. فهو إذا لم يفرض حالة الطوارئ، وبعد أن عرفت كل المؤسسات انه كان بصدد إعلانها، فان استمرار المحكمة العليا بتحديه لإظهار استقلالية القضاء، قد تعمد إلى فكفكة أسس حكمه، وإذا عاد وفرض حالة الطوارئ، فان الجهاديين قد يتحدونه بمضاعفة عملياتهم، والمظاهرات في الشوارع بدورها قد تزعزع حكمه.

ربما، بعدما أدرك مشرّف أن خطة إعلان حالة الطوارئ لن تضمن له الرئاسة، كما يريدها بشقيها المدني والعسكري، وأنها قد تكبر وتتحول إلى أزمة كبرى تدفعه إلى التنحي، تراجع عنها لأنها ليست بالخيار الناجح، ويمكن القول إن أي خطة لا تتضمن إفساح المجال أمام الأحزاب المعارضة كلها للمشاركة في السلطة، لن تنقذ حكم مشرّف على المدى القصير!