أمريكا وبقية اللاعبين: قراءة في فكر برزنسكي

TT

يشبه برزنسكي صراع الأمم على النفوذ العالمي بلعبة الشطرنج. ولذلك كان العنوان الأساسي لأحد كتبه هو: رقعة الشطرنج الكبيرة، أي المسرح العالمي الكبير الذي ستدور عليه حلقات الصراع بين القوى الأساسية. وأما عنوانه الثاني فلا يقل أهمية: أمريكا وبقية العالم. فهذا يعني أن أمريكا هي اللاعب الأكبر، وأن الآخرين ليسوا إلا لاعبين من الدرجة الثانية. ولكن هذا لا يعني التقليل من أهميتهم. فبرزنسكي على الرغم من عنجهيته واحساسه بتفوق أمريكا الساحق على كل القوى الأخرى، الا أنه لا يستهين بهذه القوى. فهو يعرف نقاط قوتها ونقاط ضعفها بكل دقة. كما انه يعرف ان هذه القوى، وبخاصة الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي تحاول أن تنافس أمريكا على النفوذ العالمي، ولن تذعن لها كليا عن طيب خاطر. وهذه الدول المنافسة لأمريكا، والتي يمكن أن تنافسها مستقبلا على زعامة العالم موجودة كلها في القارة الأوروبية ـ الآسيوية ولذلك يحصر تحليله منذ البداية وحتى النهاية برقعة الشطرنج الممتدة من أقصى أوروبا الى أقصى آسيا. يقول برزنسكي منذ البداية: ان الرهان الجغرافي ـ السياسي الأساسي بالنسبة لأمريكا هو القارة الأوروبية ـ الآسيوية وليس أفريقيا ولا أمريكا اللاتينية. لماذا؟ لأن شعوب هذه القارة الشاسعة الواسعة هي التي كانت تسيطر على العالم منذ خمسة قرون وحتى اليوم: أي منذ أن وجدت العلاقات الدولية. واليوم تظهر لأول مرة قوة من خارج هذه القارة لكي تسيطر عليها وعلى العالم. هذه القوة هي الولايات المتحدة الأمريكية، ويعترف برزنسكي بأن سيطرة أمريكا لها عمر محدود، مثلها في ذلك مثل بقية الامبراطوريات التي سبقتها.

ولكن ينبغي عليها ان تطيل أمد هذه السيطرة الى اقصى حد ممكن. هل هو ثلاثون سنة أو أربعون سنة؟ لا أحد يعرف..

فبناء على هذه السيطرة تتوقف ليس فقط مصلحة أمريكا، وانما مصلحة السلام في العالم كله على حد زعمه. فاذا ما اختفت امريكا بشكل مفاجئ، فان الفوضى ستعم العالم. فهيمنة امريكا الحالية تؤدي الى استقرار العالم على نحو ما، وخلق نظام عالمي جديد تكون هي المسؤول الاول عنه.

ولكن ماذا عن الفوضى الخلاقة؟ انها في رأيه عبور مؤقت او اجباري قبل التوصل الى النظام الجديد للعالم. ثم يقول بأن الطريقة التي ستدير فيها أمريكا شؤون أكبر قارة على وجه الأرض (أي القارة الأوروبية ـ الآسيوية) سوف تكون حاسمة بالنسبة للمستقبل.

فمنافس امريكا على الهيمنة الدولية اذا ما ظهر يوما ما سوف يظهر في هذه القارة وليس في غيرها. ولحسن الحظ فإن القارة الأوروبية ـ الآسيوية شاسعة جدا الى درجة انها لا تستطيع ان توحد نفسها في مواجهة أمريكا. ولو استطاعت لقضت فوراً على الهيمنة الأمريكية. إذ كيف يمكن لأمريكا ان تواجه اوروبا وروسيا والصين واليابان والهند مجتمعة؟ هذا مستحيل. ولذا ينبغي على امريكا ان تلعب على وتر التنافسات الكائنة بين هذه الدول الكبرى وان تحجمها الواحدة عن طريق الأخرى. وهكذا تظل القوة المهيمنة إلى اطول فترة ممكنة. وعلى أي حال فإن هذه القوى الكبرى ـ أو المرشحة لان تكون كبرى ـ لا تستطيع ان تتوحد لسبب بسيط: هو انها تنتمي إلى قوميات وأجناس ولغات مختلفة. فكيف يمكن توحيد الصين مع روسيا، أو اليابان مع الصين؟ وهما عدوتان لدودتان تاريخياً.

ولكن برزنسكي يرى ان الهيمنة الأمريكية ـ على الرغم من بعدها الكوني الشامل ـ إلا انها تظل سطحية. فهي على عكس الامبراطوريات السابقة لا تمارس احتلالاً مباشرا لمناطق نفوذها. وانما تمارس هذا النفوذ عن طريق التأثير غير المباشر وعن طريق القواعد العسكرية والأساطيل المتموضعة هنا أو هناك. يضاف إلى ذلك ان اتساع القارة الأوروبية ـ الآسيوية وقوة بعض الدول المهمة التي تسكنها يؤديان إلى لجم النفوذ الأمريكي وتقليص مقدرته على التحكم بالأحداث. فهذه القارة العملاقة التي تضم شعوباً غنية بثقافاتها ومعتدة بنفسها وتراثاتها لا يمكن ان تخضع بسهولة لامريكا حتى لو كانت اكبر قوة في العالم. يضاف إلى ذلك أن امريكا ديمقراطية جداً في بلادها، فكيف يمكنها ان تستخدم لغة الإكراه والقسر مع الآخرين؟ وهذا ما يحجم من مدى لجوئها إلى استخدام القوة او التهديد العسكري اللهمَّ إلا بعد (11) سبتمبر وبعد ان ضربت مباشرة في عقر دارها.

مهما يكن من أمر، فلكي تحافظ امريكا على هيمنتها العالمية، فانه لا ينبغي عليها ان تهمل أهمية الجغرافيا السياسية او ما يدعى حالياً بالجيوبوليتيك. بمعنى ان كل بلد يستمد إلى حد ما اهميته السياسية من موقعه الجغرافي. وكان نابليون يقول: يكفي ان أعرف جغرافية بلد ما لكي أفهم فوراً سياسته الخارجية!.. ولهذا السبب اصبح الاختصاصيون يتحدثون اكثر فأكثر عن أهمية العوامل الجيوبوليتيكية (أي الجغرافية ـ السياسة). فهناك علاقة جدلية او حتمية بين الموقع الجغرافي لبلد ما وبين سياسته. ولا يستطيع ان يبلور سياسته الخارجية بشكل صحيح إلا اذا أخذ موقعه الجغرافي بعين الاعتبار، وكذلك موقع الآخرين منه وبخاصة جيرانه المباشرين. ويفرق برزنسكي هنا بين الفاعلين الجغرافيين ـ الاستراتيجيين، وبين الدعامات الجغرافية ـ السياسية (أو الجيوبوليتيكية). فهناك بلدان مهمة تستطيع ان تلعب دوراً استراتيجياً على المستوى الجغرافي: أي دوراً يتجاوز حدودها الجغرافية. من هذه البلدان: فرنسا، المانيا، روسيا، الصين، الهند. وهؤلاء هم اللاعبون الاستراتيجيون، وهناك دول لا تستطيع ان تلعب هذا الدور ولكنها تحتل موقعاً جغرافياً مهماً يمكن استخدامه من قبل الدول الكبرى لتحقيق مآرب معينة. وهي تشكل بذلك دعامات جيوبوليتيكية لا يستهان بها. ان هذه الدول لا تستمد أهميتها من قوتها الذاتية وانما من موقعها الجغرافي. ولذا يحصل الصراع عليها من قبل الدول الكبرى. ان تحديد هذه الدعامات الاساسية بعد الحرب الباردة وحمايتها يشكلان احد اهداف الاستراتيجية الشمولية للولايات المتحدة الامريكية. نضرب كأمثلة على هذه الدعامات الجيوبوليتيكية دولاً من امثال: اوكرانيا، اذربيجان، كوريا، تركيا، ايران. نضيف الى هاتين الفئتين من الدول فئة ثالثة: هي الدول القوية والمهمة جدا ولكن التي لا تستطيع ان تلعب دورا استراتيجيا على المسرح الدولي. نذكر من بينها مثلا: انجلترا، اليابان، اندونيسيا.

ثم يكرس برزنسكي تحليله كله للتحدث عن موقف امريكا من كل هذه الدول: أي من الدول الكبرى التي تلعب دورا استراتيجيا على المسرح العالمي، ومن الدول الصغرى التي تشكل دعامات لا بد منها، دعامات ترتكز عليها الدول الكبرى من اجل لعب هذا الدور الاستراتيجي. فماذا يقول عن تركيا وايران مثلا؟ انه يرى ان هاتين الدولتين تستطيعان ان تلعبا دورا استراتيجيا يتجاوز حدودهما الجغرافية لولا بعض العوائق. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وضعف روسيا اصبحتا تطمحان في لعب دور في دول آسيا الوسطى الاسلامية. ولكن مشاكلهما الداخلية، والجهود المضنية التي تبذلها كل منهما لتحييد الاخرى، كل ذلك يقلص من اهميتهما كلاعبين استراتيجيين. فمثلا نلاحظ ان تركيا قد اكتسبت موقعا مهما في اذربيجان. فإذا بايران تخاف على اقليتها الاذربيجانية وتبذل المستحيل من اجل محاربة تركيا هناك. بل وراحت تخدم المصالح الروسية من اجل تحجيم النفوذ التركي في المنطقة. ولكن تركيا وايران تظلان مع ذلك دعامتين جيوبوليتيكيتن (أي جغرافيتين ـ سياسيتين) من الطراز الاول. فتركيا تمثل بالنسبة لامريكا عامل استقرار في منطقة البحر الاسود. وتمنع روسيا من الوصول الى المتوسط، بل وتواجه روسيا في القوقاز وتشكل نقطة ارتكاز لحلف الاطلسي في الجنوب، واذا ما تزعزعت تركيا فان ذلك يشجع على انبثاق العنف في جنوب البلقان ويؤدي الى عودة النفوذ الروسي الى دول القوقاز الاسلامية. ولذلك فليس من مصلحة امريكا ان تنهار تركيا لسبب او لآخر (كأن تتمزق داخليا بسبب المشكلة الكردية، او بسبب الحرب الدائرة بين الاتجاه العلماني والاتجاه الاصولي..). واما ايران فعلى الرغم من عدائها الشديد لامريكا الا ان وجودها ضروري من اجل منع روسيا من الوصول الى منطقة الخليج. ثم ان نظام الحكم فيها قد يتغير ويصبح اقرب الى الغرب في فترة لاحقة.

ولكن من بين كل هذه القوى الكبرى هناك قوة مرتبطة عضويا وتاريخيا بأمريكا هي: الاتحاد الاوروبي. وعندما تحز الحزة فانها تصفّ الى جانب واشنطن أياً تكن الظروف. وذلك لان القيم الحضارية الاساسية مشتركة بين الطرفين، بل ان امريكا هي بنت اوروبا وامتداد لها فيما وراء البحار والمحيطات. ولهذا السبب فان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يقــضي عطلــته الصــيفية هنـاك وكـأنه في بلـده.. وعلى بعد مائة كيلو متر فقط يوجد البيت العائلي لآل بوش..