التغريبة العراقية

TT

المشهد العراقي البائس والحزين خلّف العديد من الحزن والكآبة نتاج الدمار والقتل المجنون، ولكن يخلف أيضا هجرة وشتاتا جماعيا قد يكون الأكبر في آخر حقبة زمنية معاصرة. فاليوم، وفي أكثر من دولة عربية، أصبح ما يعرف بالظاهرة العراقية، وهي تتمثل في وجود جالية عراقية كبيرة جاءت هربا من أهوال الحرب في بلادها وبأعداد ضخمة لتستقر وتعمل بين مواطنيها. وكان نتاج هذه الظاهرة، في المقام الأول، حالة تضخم اقتصادي كبير وارتفاع مهول في أسعار العقارات والخدمات، والمواد الغذائية والعديد من السلع الضرورية الأخرى. وباتت معدلات الأسعار تفوق القدرة الشرائية التقليدية لعموم المواطنين. وهذه الظاهرة تبدو قوية وواضحة جدا في دول كالأردن وسورية ومصر، مع وجود أعداد أقل في الإمارات واليمن وشمال أفريقيا. هناك حذر شديد على الصعيد الرسمي في هذه الدول من كيفية التعامل مع هذه الظاهرة المتنامية. رسميا يرفض الأردن مثلا استخدام مصطلح «لاجئين» لوصف أعداد العراقيين الكبيرة في البلاد، ويفضل لفظ «ضيوف» وهذا طبعا حل قصير الأجل لأن مشكلة الوضع العراقي ستتفاقم من الناحية العددية مع ازدياد واستمرار الاقتتال البيني العراقي، وبالتالي ازدياد أعداد المهجرين نتاج التطهير العرقي المتعمد الذي تمارسه الفرق ضد بعضها. من هي الجهة التي ستتحمل فتح ملف المهجرين العراقيين لتبدأ في تشريع أوضاعهم بشكل لائق ؟ لأن استمرار تجاهل المسألة المتفاقمة سيجبر تدخل جهات عالمية مختلفة، قد لا تأتي بحلول تكون بالضرورة مقنعة ومرضية للجميع. غيرُ معروفة مدة التوتر والاقتتال والحرب الأهلية بالعراق، ومتى ستكتب لها النهاية السعيدة. وتبقى المأساة اللبنانية حية في ذاكرة الكثيرين بعد كابوس استمرارها لأكثر من عشرين عاما، لتوضح للحكماء أن المشهد العراقي وتبعياته بحاجة لوقفة جادة للحد من التكلفة الإنسانية والنزيف الآدمي الذي تتسبب فيه. المهجرون العراقيون لا يسكنون في خيام ومخيمات في العراء والصحارى، وقد يكون الوضع المادي للكثيرين منهم أفضل من نظرائهم الفلسطينيين، إلا أن وضعهم يبقى مأساويا وبامتياز. هناك ملفات مهولة تأتي مع الجاليات المهجرة، وخصوصا في مجالات العمل والصحة والقضاء والتعليم والحقوق المدنية كالزواج والطلاق والإرث، وهي جميعا بحاجة لنظرة جادة وفعالة حتى يكتب لهذه التغريبة العراقية أن تكون كريمة وإنسانية، ولا تضيف لأوجاع من تعذبوا وتشردوا بدون ذنب. هناك العديد من الدول الغربية كالسويد والدنمارك وكندا ونيوزيلندا واستراليا، التي رحبت بوجود الجاليات العراقية بينها وقدمت لها «حلولا» إنسانية لأوضاعها الدقيقة، ولم تكتف بالنظر وبدهشة لارتفاع أسعار العقارات وغلاء السلع فقط كنتاج لوجودها. ما لمْ نستطع مساعدة الشعب العراقي إبان «الاحتلالين»، الصدامي والأمريكي، فقد يكون من المهم مساعدة المهجرين منه بدون تردد.

[email protected]