انقلبت الآية: الحوار مع إسرائيل والحرب ضد حماس

TT

الكلام عن «اوسلو» جديد لم يعد سؤالا يبحث عن جواب، ولا اجتهادا يحتمل الصواب والخطأ، ولكنه أصبح خبرا مقطوعا بصحته، بحيث بات علينا أن نتساءل عن مضمون الاتفاق وليس عما إذا كان هناك اتفاق أم لا، بل إن عناصر الاتفاق وعناوينه باتت معروفة بصورة نسبية، ويبدو أن ثمة تفاهما على معظمها، أما الجزء المتبقي فالحوار مستمر حول كيفية «إخراجه».

ففي الأسبوع الماضي، كشفت الصحف الإسرائيلية أن ثمة حواراً يجري منذ عدة أشهر بين رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن ورئيس الوزراء الاسرائيلي أيهود أولمرت، يستهدف التوصل الى إعلان مبادئ للتسوية النهائية للقضية الفلسطينية. وهذا الحوار يتم بصورة سلمية للغاية، وثنائية بين الرجلين، اللذين يفترض أن يعقدا خلال الأيام القادمة جولة جديدة في تلك المباحثات.

وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» قد كشفت النقاب عن هذا الموضوع في تقرير نشرته يوم 16/8 الحالي، وكتب شمعون شيفر مراسلها السياسي المعروف بصلته الوثيقة بمكتب أولمرت، وتحدث فيه عن أن الرجلين «يحاولان بصدق وشجاعة معالجة القضايا السياسية في الصراع»، مشيراً الى أن أولمرت صرح للمرة الأولى أمام وفد من أعضاء الكونجرس الأمريكي بأنه يتحادث منذ أشهر مع عباس في القضايا الجوهرية للصراع، بهدف التوصل إلى اتفاق حول المبادئ التي تقود إلى قيام الدولة الفلسطينية، وأن هذه المبادئ تتعلق بالحدود والقدس واللاجئين وتبادل الأراضي والمعبر الآمن بين الضفة واسرائيل، وطبيعة العلاقة بين اسرائيل والدولة الفلسطينية». وأمام الوفد الأمريكي وصف أولمرت أبو مازن بأنه «أول زعيم فلسطيني ـ منذ بدء الحوار مع القيادة الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو ـ معني حقا بتغيير الواقع ويريد فعلاً سلاماً مع اسرائيل». وأضاف أنه في حالة التوصل إلى اتفاق مع الرئيس الفلسطيني، فإنه سيعرض على الشعب الفلسطيني للاستفتاء عليه.

من الملاحظات المهمة التي سجلها تقرير المراسل الاسرائيلي إشارته إلى أن أولمرت اشترط في اللقاءات السرية أن تبقى حركة حماس خارج اللعبة (لأنها عدو للسلام!). كما أنه هدد بوقف التعاون مع أبو مازن في حالة تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية بمشاركة حماس.

لم يذكر شمعون شيفر شيئاً عن مضمون المحادثات الجارية. وأشار في الوقت ذاته إلى أنه لا يعرف مدى التنازلات التي يقدمها عباس لأولمرت (لاحقاً ذكرت صحيفة هآرتس أن موضوع حق عودة اللاجئين يشكل الخلاف الأبرز في المفاوضات الدائرة بين الرجلين)، لكنه أضاف أنه اعتماداً على تصريحات أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني فإن إسرائيل ستكون مستعدة للانسحاب من 50% من أراضي الضفة تقام فيها وفي قطاع غزة الدولة الفلسطينية على أن تبقى (اسرائيل) تحت سيطرتها المساحة المتبقية المقامة عليها أكثر من مائة مستوطنة، وإنها توافق على إقامة ممر عادي (علوي أو تحت الأرض) بين الضفة والقطاع. وزاد أن أولمرت يميل الى قبول اقتراح بتعويض الفلسطينيين عن الأراضي في الضفة بأراض بديلة في رمال النقب. وتابع أن أولمرت لمح في الماضي إلى استعداده لنقل أحياء عربية في أطراف مدينة القدس الشرقية الى سيادة السلطة الفلسطينية، وأنه مستعد للتوصل الى اتفاق على مسؤولية مشتركة فلسطينية ـ اسرائيلية على الحرم القدسي الشريف. وفي مسألة اللاجئين، يتبنى أولمرت موقف ليفني القاضي بأن يطبق الفلسطينيون حق العودة فقط الى تخوم الدولة الفلسطينية، وليس الى ديارهم داخل اسرائيل.

صحيفة «هآرتس» نشرت تفاصيل أخرى حول الاتفاق المرتقب، منها أن الوثيقة المتضمنة لاعلان المبادئ سوف تكون مختصرة في صفحة واحدة، وستتضمن ما بين 4 و5 مبادئ عامة مقبولة من الطرفين، وأن رئيس الحكومة الإسرائيلية يأمل في إنجازها قبل المؤتمر الإقليمي الذي دعت إليه الولايات المتحدة في الخريف القادم. وكشفت أن وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس ستزور المنطقة في مستهل الشهر الجديد لتضييق الفجوات بين الطرفين، وأن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني وضعت استراتيجية لإنجاح مفاوضات أولمرت وأبو مازن عن طريق التحرك على ثلاثة مستويات هي:

ـ إضعاف «حماس» من خلال تصعيد الجهود الرامية إلى نزع الشرعية عنها في مقابل تدعيم حكومة السلطة الفلسطينية من خلال التعاطي مع «الجهات المعتدلة».

ـ حشد تأييد إقليمي من الدول العربية والإسلامية المعتدلة للعملية السياسية. ومن رأي ليفني أن من شأن ذلك أن يساعد على اندماج إسرائيل في المنطقة عبر تطبيع العلاقات معها على مراحل.

ـ تجنيد دعم دولي من أعضاء اللجنة الرباعية الدولية تحديداً والمجتمع الدولي عموماً، الذي ترى اسرائيل أن مهمته الأساس دعم العملية السياسية وتقديم المساعدات المالية لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية العتيدة وتوفير أفق اقتصادي لها.

ليس معروفاً ما إذا كانت هذه الاتصالات بدأت بين أولمرت وأبو مازن أثناء حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية أم لا، برغم إشارة مراسل «يديعوت أحرونوت» الى أن العملية مستمرة منذ عدة أشهر وتعطي ذلك الانطباع. كما أن بعض الكتابات الاسرائيلية تشكك في إمكانية الوصول إلى الاتفاق المنشود، وهو ما عبر عنه كبير المعلقين في الصحيفة ذاتها ناحوم برنياع، الذي قال إن أولمرت وضعه مهزوز وقد يطيح به تقرير لجنة فينوغراد عن تقصير حكومته في حرب لبنان، الأمر الذي يجعله رئيساً للوزراء مع وقف التنفيذ، كما أن أبو مازن رئيس فلسطيني تكمن قوته الوحيدة في ضعفه. وقياديان بهذه المواصفات أعجز من أن يسوقا اتفاقاً حول مبادئ التسوية النهائية للصراع.

مع ذلك، فالثابت أن أولمرت يحاول استثمار فرصة الضعف الشديد لأبو مازن الذي أدى إلى تدهور وضع القضية الفلسطينية على نحو غير مسبوق، لانتزاع ما يمكن انتزاعه من تنازلات في إعلان المبادئ. وذلك يمكن أن يحسب له كإنجاز قد يحسن موقفه وينسى الرأي العام فشله في حرب لبنان. وفي الوقت ذاته، فإن الإدارة الأمريكية تستعجل الوصول إلى اتفاق، لإضافته إلى رصيد الرئيس بوش المتراجع بامتياز، أملاً في أن يؤدي ذلك الى تسكين الوضع في المنطقة ويمكن الإدارة الأمريكية من التفرغ للتعامل مع الملف الإيراني.

على الصعيد الفلسطيني، فثمة تمهيد متسارع للاستبدال بالاتفاق تحركا في اتجاهين متوازيين، أولهما السعي بمختلف السبل والمراسيم لإخراج حركة حماس من المسرح السياسي الفلسطيني، والحيلولة دون تمثيلها في أي مؤسسة فلسطينية منتخبة أو تنفيذية في المرحلة المقبلة. أما ثانيها فهو يتجلى في العمل على تصفية المقاومة بمختلف صورها، إذ بعد أن أسقط رئيس حكومة رام الله الدكتور سلام فياض المقاومة المسلحة من برنامج حكومته، فإنه لم يتوقف عن شن الحملات ضدها، حتى وصفها في بداية الاسبوع الحالي بأنها «مليشيات مسلحة». واعتبرها عقبة في طريق تحقيق السلام. وربما كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يصرح فيها رئيس حكومة «وطنية» في بلد محتل بمثل هذا الكلام عن المقاومة الوطنية. وفي الوقت ذاته، فإن حكومته شجعت عناصر المقاومة على إلقاء سلاحها والتعهد بعدم التصدي للاحتلال، مقابل توقف السلطات الإسرائيلية عن ملاحقتهم. وهو ما يعني ـ بين ما يعني ـ إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لمطاردة وتصفية المقاومين الذين يصرون على حمل السلاح وتحرير وطنهم من الاحتلال.

ما الذي يعنيه ذلك كله؟ ثمة محاولة حقيقية لإغلاق ملف القضية الفلسطينية. وانتزاع أقصى ما يمكن من التنازلات من أبو مازن، الذي لن يمكنه ضعفه من الصمود أمام الضغوط الاسرائيلية والفلسطينية. يعني أيضاً أن أبو مازن بصدد الدخول في دوامة جديدة تكرر تجربة أوسلو، التي كانت كسباً إسرائيلياً محققاً، وأصبحت وبالاً على النضال الفلسطيني، وحملة التخلص من الاحتلال، بعدما وفرت للاسرائيليين فرصة جديدة لتغيير الحقائق على الأرض، واستدراج الدول العربية الى الفخ الذي أصبح يحمل اسم معسكر السلام وقوى الاعتدال في المنطقة. يعني كذلك أن المسلسل العبثي مستمر، فبدلاً من أن يسعى أبو مازن وجماعته إلى لملمة الصف الفلسطيني من خلال التفاوض مع حماس بعيداً عن الضوء وفي السر، ومواجهة المخططات والاجتياحات الإسرائيلية بالإدانة المعلنة، فإنه فعل العكس تماماً، إذ بدأ يفاوض إسرائيل في السر لإغلاق ملف القضية، في حين أن حربه المعلنة ظلت ضد حماس وحدها. وهو ذات الموقف العبثي الذي أدهش الجميع وأذهلهم، مما دفع مراسل الإذاعة البريطانية الى التوجه بالسؤال التالي عبر الهاتف الى أقرب مساعديه السياسيين، ياسر عبد ربه، من يكون عدوكم الآن اسرائيل أم حماس؟ ـ وهو السؤال الذي أحرج الرجل وأربكه، حيث لم يستطع أن يعترف بالحقيقة المرة، فشتم المراسل وأغلق في وجهه سماعة الهاتف!