إبادة الإيزيديين.. لم يبق «سوى أشباح موتانا»!

TT

يتعثر القلم ويتلعثم اللسان عن الوصف والتشبيه، لإبادة قريتين كاملتين، حوالي 750 إنساناً. إنها أعاصير من الدماء ومواسم لحصاد البشر، تنفذ بلا إنذار، فحتى كوارث الطبيعة تنبئ الطيور والأشجار بمقدمها، فينجو مَنْ ينجو من العارفين بعوائد انهيارات الأرض. ألا تهز كارثة مثل كارثة إبادة الأيزيديين، وما تعرضت له أسواق ومحلات بغداد وازدحامات العراقيين لنزهة أو عمل أو عبادة ضمير احتلال وحكومة، وكيانات تسعى يوماً يعد يوم لتعميق الكراهية في المجتمع العراقي؟ أليس على المحتل أن يعلن عن أخطائه الجسام، وعلى الكيانات الدينية أن تعلن فشلها على الملأ؟

الأيزيديون، الذين اعتصموا بالجبل والوادي طوال مئات السنين، لم تعد تلك البيئة عاصمة لهم من صولات جيوش وفتاو. وكذلك الحال لم تعد أديرة المسيحيين، وهم بقية بابل وآشور، محمية بعزلتها على سفوح الجبال وأطراف المدن، مع أنها ظلت مفتوحة الأبواب منذ القرن الميلادي الأول، وتخرج منها الأطباء والمترجمون وكبار الكُتاب. ولم تعد شواطئ الرافدين أليفة للصابئة المندائيين، وقد اتخذوا من مياهها الحية مادة للعبادة! وهل سلم البكاة على الحسين من إبادات في مواسم الحزن، أو زوار الحضرة الكيلانية، والمصلين في المساجد والحسينيات؟ ناهيك من محاولات إلغاء الإرث التاريخي لحلة بابلية أو بغداد عباسية أو نينوى آشورية.

تسميات القحطانية والعدنانية؛ القريتان التابعتان لقضاء بعاج من أطراف الموصل الشمالية الغربية، حيث الحدود الشامية وذواتا الكثافة الأيزيدية، واحدة من انعكاسات التعصب القومي، وضخ الكراهية في زمن كان لا يرحم البشر ولا الشجر، وما حل بهما من إبادة جماعية، قد لا تشهدها سوى مواسم الحروب الكونية والتصفيات العرقية الكبرى. انه امتداد لذلك التعصب الأعمى، بل هو شاهد على تحولات التعصب إلى مسميات شتى، فالحال واحدة والنفوس هي هي، لا تتأخر عن ممارسة الكوارث. وأرجو أن لا توهمنا الشعارات أكثر مما أوهمتنا، فما قيمة شعار الديمقراطية وضحايا صولة واحدة ثلاثة أرباع الألف من البشر! وما قيمتها وخسائر البلاد اليومية عشرات الملايين من الدولارات! وما نفع الشرعية الانتخابية والفاسدون مسلطون على رقاب الناس وبهذه الكثرة؟

أعتقد أن محاولات الأمريكان والكتل السياسية، التي عُرفت بالكبرى وعلى الخصوص في مؤتمرها الأخير، أتت خالية من الجرأة! أترى ما يجري بالعراق من مقاتل إلى حد الكوارث خال من أنانيات تلك الكتل، وقصر نظرها! فلو أجريت مقارنة بين خطاباتها وبياناتها في زمن المعارضة وبين ممارساتها في زمن السلطة لكان العجب العجاب.

عموماً، تأتي إبادة الأيزيديين واحدة من الإبادات الكبرى، كان أعلاها رقم في زمن اعتبار قتل الجماعات أنفالاً، وأن عدد المؤنفلين فاق المائة والثمانين إنساناً، وتأتي بعدها إبادة حلبجة، حيث رجح العدد على الخمسة آلاف إنسان. حُسبت الكارثتان دفاعاً عن حياض الوطن والعروبة، فقتلاها خونة. ومن بعدهما أتت كارثة الجسر ـ من حيث العدد ـ والغرقى زادوا على الألف والثلاثمائة إنسان، وكان المنطق التبريري نفسه، فقد عُدَّ هؤلاء شهداء الشعائر! وكم تبدو المسافة بين عناوين القتلى مرنة على الألسن، مع أن الموت واحد، والمصير في الآخرة لا يعلمه إلا الله. وإن دخل مسببي الأنفال وحلبجة قفص الاتهام، إلا أن مسببي غرقى الجسر أصبحوا دولة. أقول هذا لأني كغيري سمعت لهجة زعماء الدولة والكيانات في تحميس وتعجيل الناس على إحياء المناسبة المليونية للمباهاة بالأكثرية، مثلما جاءت على ألسنتهم!

ليست إبادة الثلاثاء الماضية (14 آب) الأولى للأيزيديين، فقد سبقتها باسم الدين صولات الجيوش العثمانية عليهم، مع أنهم أهل ديانة قديمة، واسمهم يعني الإلهيين. ديانة تشهد لوجودها صخور الجبال المحيطة بمعبدهم لالش، حيث الوادي التابع لمدينة شيخان، والمرتبط بمحافظة دهوك، أقصى الشمال العراقي. إبادات دعمتها فتاوى دينية، كانت أولها فتوى الشيخ أبو السعود العمادي، مفتي الدولة العثمانية لمدة 30 سنة، بعد اعتبارهم طائفة مرتدة عن الإسلام. وبعدها صدرت ضدهم فتاوى تدعي أنهم كفرة أصليون، مع أن حقيقة المسألة كانت خاصة برفض التجنيد أو النفير العام (السفربرلك). وفي إحدى الهجمات العسكرية، أواخر الدولة العثمانية، نبش الجنود قبر الشيخ آدي وحرقوا عظامه أمام مريديه. وفي عام 1906 مُنعوا من الصلاة في الضريح بعد تحويله إلى مدرسة إسلامية.

قالوا بكفرهم وأفتوا بقتلهم مع أن دعاء أيزيدي في صلاة الفجر يقول: «يا رب أنت الكريم الرحيم الإله، ملك مُلك الدنيا، مملكة الأرض والسماء، ملك العرش العظيم». وفي دعاء آخر: «يا رب انك أنت الموجود وأنا المعدوم، أنت الغافر للذنوب، أنت الإله الحق مالك الكم والكيف، لا قامة لك لكنك رفيع، لا صوت لك لكن صوتك معروف». لكن، تتكلم مع مَنْ وتستحث ضمير مَنْ، ومَنْ الناجي؟! فربما لم يبق «سوى أشباح موتانا»!

[email protected]