شخصيات لندنية

TT

خلد في ذهني الكثير من شخصيات لندن ممن أعجبوني بسلوكهم. يأتي في مقدمتهم ذلك الرجل الذي كنت أراه واقفا بجانب باب مستشفى «غاي هوسبتل» بشرقي لندن، يحمل بيده باقة من الزهور. لم يكن بائع زهور فلم يكن لديه غير تلك الباقة. وكان بائع الزهور يجلس في الجانب الآخر، محاطا بأوراده وأزهاره المعدة للبيع الى عواد المرضى. اعتاد ذلك الرجل على الوقوف طوال فترة الزيارات المحددة حتى اذا اوشكت على الانتهاء، اسرع للدخول الى ردهات المستشفى يحمل اوراده بيده. استغربت من أمره حتى اكتشفت حكايته.

كان شارلي رجلا أعزب، لا ولد ولا تلد. وقدر له ان مرض وادخلوه مستشفى «غاي هوسبتل». لاحظ خلال وجوده هناك كيف ان المرضى ينتظرون بفارغ الصبر زيارة ذويهم واصحابهم بما يجلبون لهم من هدايا، علب شوكولاته، اكياس فواكه، او باقات ورد. يغمرونهم بالقبل ويجلسون بجانبهم يحدثونهم ويسامرونهم ويشجعونهم. اما شارلي فلم يكن هناك من يزوره. لم يشعر بالوحدة كما شعر هناك، وحيدا بين المرضى بدون عواد او هدايا.

ذاق مرارة هذه الوحدة والشعور بالإهمال الذي يتعرض له مرضى المستشفى المحرومون من العواد وممن يواسيهم ويرفع معنوياتهم. ما ان شفاه الله تعالى من مرضه وسرحوه من المستشفى سالما معافى حتى عقد العزم على ان يكرس كل يوم من حياته من ايام الزيارات الى التوجه الى ذلك المستشفى، يشتري بعض الازهار ويقف ينتظر بصبر. حتى اذا أذنت فترة الزيارات المحددة على الانتهاء اسرع داخلا في إحدى الردهات يفتش عن أي مريض لم يزره احد. يسلم عليه ويقدم له باقة الازهار وبعض الصحف اليومية. ويجلس معه ليبادله الحديث عن كل ما يدخل المسرة الى قلب المريض وينسيه اوجاعه وهمومه ومخاوفه. يدق جرس نهاية مدة الزيارات فيسلم عليه ويترك الجرائد معه. يدعو له بالشفاء العاجل ثم ينصرف.

زيارة المرضى واجب اخلاقي وديني، ولكن اداء هذا الواجب لمن لا تعرفه ولا تتوقع ان تلتقيه في حياتك فضيلة وحسنة مضاعفة.

سألوه يوما عن أعظم وأجدى مصادفة مر بها في عملياته الخيرية هذه. قال حدث ذلك عندما دخل احدى الردهات وقد اوشكت مدة الزيارات على الانتهاء، فوجد امرأة وحيدة ممددة على سريرها وقد استغرقت بالبكاء. لا بد ان لاحظت كيف ان النساء الاخريات قد استمتعن بزيارة ازواجهن او اولادهن او احبائهن في حين لم يكن لهذه المرأة من يزورها ويكلمها. سلم عليها وقدم لها ازهاره وراح يواسيها ويحدثها. اكتشف ان مرارة تلك الوحدة قد تضاعفت في ان من تحب أخلف عن زيارتها. ربما شغلته مشاغل الدنيا او انشغل بإمرأة اخرى فتناساها. لا ادري ما الذي قاله لها شارلي. ولكنني اتصور ما نطق به. قال لها «انسي يا بنيتي الرجالة. كلهم اولاد ... !»

وبقي شارلي في ذاكرتي، شخصية من الشخصيات اللندنية التي علمتني معنى الانسانية.