حال سوريا: «تنــام جِــلِّقُ بين اليأس والكمد»!

TT

ما كان يجب أن يُفاجأ أيٌّ كان بالاتهامات التي وجهها نائب الرئيس السوري فاروق الشرع إلى المملكة العربية السعودية في تصريحاته التي أطلقها قبل نحو أسبوع، فهذه الاتهامات الظالمة وغير الصحيحة والمفتعلة افتعالا، التي تدحضها الحقائق المعروفة لأهل الشرق والغرب، تأتي في سياق سياسة أخذت سوريا تنتهجها حتى بدون «تقيِّة» منذ أن ربطت نفسها وهي «قلب العروبة النابض» كمجردة عربة صغيرة ملحقة بالقاطرة الإيرانية. إنه نهج كامل استجد على سياسة سوريا وتوجهاتها العربية، ولذلك فإن ما قاله فاروق الشرع ما كان من الممكن أن يقوله لولا أنه سمع الرئيس بشار الأسد في خطاب «النصر الإلهي»، الذي قيل إن حزب الله «اللبناني»! حققه في حرب صيف العام الماضي، يصف القادة والزعماء العرب الذين من المفترض أنهم زملاؤه بأنهم «أنصاف رجال» ولولا أنه متيقِّنٌ من أن اتهاماته للمملكة العربية السعودية ستواجه بالارتياح وبالتشجيع من قبل أصحاب القرار الحقيقيين. ليس ضرورياً مناقشة فاروق الشرع في صحة أو عدم صحة ما قاله وما تفوه به فالشعب السوري يعرف حقيقة المواقف السعودية تجاه بلده وتجاه القضايا العربية كلها وعلى رأسها وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والمؤكد أن العرب والمسلمين الذين قرأوا هذه التصريحات وسمعوها بقدر ما شعروا بالاشمئزاز وبحاجتهم للذهاب إلى المرافق الصحية للتقيؤ بقدر ما استغربوا كيف أن كل ما قدمه السعوديون لهذا النظام وعلى مدى ثلاثين عاماً يواجه بكل هذا النكران.

إن المسألة ليس مسألة فاروق الشرع فهذا الرجل رغم أنه نائب رئيس الجمهورية، من حيث المسمى الوظيفي على الأقل، ما كان يستطيع أن يقول كلمة واحدة مما قاله لو أنه لا يعرف أن سوريا القديمة ليست سوريا الجديدة المستجدة، وأن الأعوام الستة الأخيرة من عمر هذا النظام أتت على كل إيجابيات مسيرة الثلاثين سنة التي سبقتها... إن سوريا ليست من الدول التي يستطيع فيها أيُّ مسؤول دون المسؤول الأول أن يعبر عن رأيه الخاص غير المتناغم وغير المتسق مع السياسة العامة الرسمية.. إن المسألة تكمن في أن هذه الدولة تخلت عن أصدقائها وعن إلتزاماتها العربية منذ أن غدت تابعة لـ«الولي الفقيه» في طهران، ومنذ أن أصبحت سياساتها ومواقفها خاضعة لحسابات «فسطاط الممانعة والمقاومة». في بدايات تاريخ بعيد يعود لعام 1968 مهَّد الرئيس الراحل حافظ الأسد لانقلابه، الذي أطلق عليه اسم «الحركة التصحيحية»، الذي نفذه ضد رفاقه الذين اشترك معهم في حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 التي أطاحت نظام «القيادة القومية»، برئاسة الأردني الدكتور منيف الرزاز، بالدعوة لضرورة إخراج سوريا من عزلتها وضرورة استبدال تحالفاتها القائمة بتحالفات جديدة وضرورة الانفتاح على المملكة العربية السعودية تحديداً وبصورة خاصة.

كان النظام السابق، الذي كان حافظ الأسد أحد الذين جاءوا به إلى سدة الحكم بعد إطاحة أمين الحافظ ومعه «القيادة القومية»، على علاقات في غاية السوء مع معظم الدول العربية إن لم يكن كلها، وكانت حال سوريا في تلك الفترة التي سبقت «الحركة التصحيحية» الآنفة الذكر، كحالها اليوم مع الفارق الكبير في التوجهات والقناعات الرئيسية التي يحلو للبعض تسميتها «الثوابت».. لقد كانت معزولة عربياً ومكروها نظامها داخلياً ومحاربة دولياً باستثناءات قليلة، من بينها الاتحاد السوفياتي وبعض الدول الإشتراكية.

في تلك الفترة بدأ السوريون يقولون في العلن ما كانوا لا يستطيعون قوله حتى في السر، وفي تلك الفترة اتجهت الأنظار إلى حافظ الأسد، الذي كان قد بدأ المعركة مع النظام اليساري الذي كان هو نفسه أحد رموزه فأخذ يرفع راية: «إخراج سوريا من عزلتها وإعادتها إلى عمقها العربي الحقيقي» وفي تلك الفترة جرى تداول قصيدة يقول مطلعها:

تنام جِلِّقُ بين اليأس والكَمَدِ

ألا من منقذٍ يا حافظ الأسد

ولذلك واستناداً إلى قناعة الشعب السوري بضرورة التغيير وقناعته بأن هذا التغيير المطلوب والمرجوِّ غير ممكن إلا على يديه، فقد ضرب حافظ الأسد ضربته في اللحظة المناسبة عندما كان المؤتمر القومي العاشر للحزب منعقداً في دمشق في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 وقام بـ«حركته التصحيحية» بدون إراقة ولا قطرة دم واحدة، وبدون أن يواجه إنقلابه لا بمظاهرة ولا اعتصام طلابي ولا تمرد ولو وحدة عسكرية، وبرضا غالبية السوريين وارتياح كل دول المنطقة العربية وغير العربية.

والحقيقة أن حافظ الأسد في الأعوام الثلاثين التي أمضاها في الحكم جعل سوريا رقماً رئيسياً في معادلة المنطقة، وجعل حتى الذين لا يؤيدون نظامها لا يخفون إعجابهم بسياساته المتوازنة، حيث كانت العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب عموماً ليست على حساب العلاقات مع الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، وحيث كانت العلاقات مع إيران ما بعد الثورة الخمينية ليست على حساب المملكة العربية السعودية ومصر وباقي الدول العربية، وحيث أرسل قواته إلى لبنان بدون اعتراض إسرائيل وبترحيب الولايات المتحدة الأميركية وعدم ممانعة الاتحاد السوفياتي، وأيضاً حيث شتت شمل منظمة التحرير وأجبر ياسر عرفات على اللجوء إلى تونس والى المنافي البعيدة الأخرى، بينما كانت دمشق تحتضن كل الفصائل الفلسطينية باستثناء حركة «فتح».. لقد كانت لديه قدرة عجيبة على النوم إلى جانب الذئب والحمل في الوقت ذاته، فقد كان يسوِّق علاقات بلاده بـ«الثورة الخمينية» على دول الخليج العربي ببراعة ما بعدها براعة، ولقد حارب إلى جانب الحركة الوطنية اللبنانية ضد القوات المسيحية، التي كانت توصف بأنها انعزالية، ثم ما لبث أن نقل البندقية من كتف إلى الكتف الآخر. الآن أصبح كل شيء مختلفاً عما كان عليه، فالرقم الصعب في معادلة المنطقة غدا رقماً ثانوياً والقوات «الشقيقة» التي كان وجودها ضرورة وطنية وقومية أُخرجت من لبنان بطريقة غير لائقة وغير كريمة، والآن لم تعد علاقات سوريا بكل أشقائها، ربما باستثناء قطر، كما كانت عليه أيام زمان، ولقد أدارت دمشق ظهرها للمملكة العربية السعودية، الدولة التي احتضنتها في السراء والضراء وبهذا فقد باعت «العمة بالخالة»، كما يقال، ولحساب إيران التي غدا شغلها الشاغل التدخل في شؤون العرب الداخلية من أجل الهيمنة على المنطقة وإعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية!

هناك آراء وتقديرات متعددة مختلفة حول التوقيت الذي اختارته دمشق لدفع فاروق الشرع لشن هذا الهجوم «المباغت»! على المملكة العربية السعودية، فالبعض يقول إن السبب هو اقتراب موعد بدء المحكمة الدولية لمحاكمة المجرمين الحقيقيين الذين ارتكبوا جريمة اغتيال رفيق الحريري. والبعض يقول إن المقصود هو قطع الطريق على الدور السعودي الفاعل والنشيط لوقف انهيار الأوضاع اللبنانية أكثر مما هي منهارة، ولدفع اللبنانيين لاختيار رئيس جمهوريتهم الجديد الذي إن حلَّ موعد هذا الاستحقاق بدون الاتفاق عليه فإن البديل سيكون الفراغ الذي سيؤدي إلى استئناف الحرب الأهلية المدمـرة.

والبعض يقول، بل إن السبب هو أن سوريا أقدمت على ما أقدمت عليه ودفعت الشرع، الذي رغم أنه موظف كبير برتبة نائب رئيس الجمهورية إلا أنه لا دور له إلا هذا الدور، إلى القيام بما قام به ومهاجمة السعودية بهذه الطريقة البشعة واتهامها بهذه الاتهامات المتجنية من قبيل الابتزاز وعلى طريقة الصحف الصفراء التي تتقصد استهداف دولة من الدول لحملها على استرضائها وإعطائها ولو بعض ما تطلبه.

إن هذين الاحتمالين واردان وهناك احتمالات كثيرة تتردد على هذا الصعيد، لكن المؤكد أن بيت القصيد هو أن سوريا، التي استدارت لتعض اليد التي تقدمت إليها بالإحسان والدعم مرات كثيرة، قد أقدمت على ما أقدمت عليه لشعورها في ضوء لجوء الأميركيين مرغمين للحوار مع الإيرانيين بتفوق حلفها مع إيران، بعد إغراق العراق بالفوضى غير الخلاقة وبعد تحول حزب الله إلى أهم رقم في المعادلة اللبنانية بعد انتصاره المزعوم في حرب صيف العام الماضي، ثم بعد قيام حركة «حماس» بالانقلاب العسكري الذي قامت به في غزة . لم تعد سوريا تفكر بالطريقة التي كان يفكر فيها الراحل حافظ الأسد التي مكنته من وضع الشتاء والصيف فوق سطح واحد، فهي بعد أن وضعت كل بيضها في سلة «الولي الفقيه» في طهران لم تعد معنية بعمقها العربي ولا بعلاقاتها العربية التي رسخها رئيسها السابق على مدى نحو ثلاثين عاماً من حكمه، ولذلك فإنها بادرت إلى الإساءة للمملكة العربية السعودية بدون أن يرف لها جفن، أولاً عندما وصف رئيسها القادة العرب بدون أن يستثني أحداً منهم بأنهم أنصاف رجال، وثانياً عندما قال فاروق الشرع، الذي لم يزاول أي مهمة غير هذه المهمة، ما قاله يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي.

وهنا وفي النهاية ألا يجوز التساؤل عما سيقوله حافظ الأسد يا ترى لو أن معجزة وقعت واستفاق من غفوته ولو للحظة واحدة.. هل أنه سيردد بيت الشعر الذي سمعه على ألسنة السوريين في عام 1970:

تنام جِلقُّ بين اليأس والكمدِ

ألا من منقذٍ يا حافظ الأسدِ

* جِلِّق : هو أحد الأسماء

القديمة لدمشق.. الشام