لا يحدث .. إلاَّ في لبنان

TT

لم يحدث ان وصل السجال بين اطياف العمل السياسي والحزبي في بلد عربي الى الدرجة التي وصل اليها في لبنان، وإن كان من الجائز القول إن الاطياف المماثلة في السودان وفلسطين والعراق لم تُقصِّر.

لكن الاطياف اللبنانية فازت بـ«ميدالية جدارة الإسفاف» وإنزال تقاليد السجال الى مستوى متدن وبحيث ان مفردات التخاطب التي نلاحظها في تصريحات هذا القطب السياسي او ذاك القطب الحزبي تتجاوز بكثير الاصول وإلى درجة يصعب معها التمييز بين مفردات يرددها اهل الشوارع وأخرى يرددها اهل المقامات والدواوين السياسية والحزبية.

ولقد توقَّع اللبنانيون ان تحتد المساجلة بين بعض رموز العمل السياسي والحزبي بعدما شارفت ولاية رئيس الجمهورية الحالي اميل لحود على النهاية، وذلك أمر مألوف في دنيا الترئيس والترؤس، الاَّ ان الذي لم يخطر في البال هو أن رئيس الجمهورية المفروض أنه فوق النزاعات السياسية وانه المرجعية التي يتم الاحتكام اليها، يجد نفسه خصماً وليس حَكَماً وانه ينازل بالكلام احد ابرز الزعماء الحزبيين، النائب وليد جنبلاط وينبش كل منهما من الذاكرة مواقف وتصريحات عن الآخر يشير اليها بصيغة مَنْ يشتم او يرد الشتيمة.

وهذه المواقف والتصريحات تتمحور حول العلاقة مع الحكم السوري الذي انقلب عليه جنبلاط فبات يعوِّض بالنقد الجارح ومستهجَن كلام المديح المبالغ فيه والتسليم بصوابية سلوك ذلك الحكم ايام كان هذا الحكم هو المرجعية السياسية للرئاسات اللبنانية الثلاث، وكان جنبلاط مضطراً وصاغراً لذلك الأمر الواقع. اما اميل لحود الذي تعود لذلك الحكم افضال ترئيسه كما الذين سبقوه من الياس سركيس الى امين الجميل الى الياس الهراوي، ثم التمديد بإكراه رئيس الحكومة رفيق الحريري وعدم الارتياح الضمني لذلك من جانب رئيس البرلمان نبيه بري، فإنه بقي حتى بعدما انسحبت القوات السورية من لبنان على العهد وفياً لمن وضعه على سدة الرئاسة ست سنوات تلتها ثلاثُ التمديد التي كانت صعبة على الوضع العام، خصوصاً ان اللبنانيين فقدوا بعد التمديد الرئيس الذي يجب ان يكون فوق الصراعات ويكون الحَكَم فقط وليس الخصم ومن دون ممارسة دور الذي يميز بين الحقيقة والتضليل وبين الاقتناع والمداهنة وبين الزهد والطمع وبين القناعة والحسد.

منذ اغتيال رفيق الحريري وما تلا هذه الفاجعة من تداعيات ازدادت المبارزات اللسانية اسفافاً وتحقيراً متبادَلاً للمتبارزين كباراً وصغاراً، مع ملاحظة ان اثنين من هؤلاء كانا في غاية الشراسة اللفظية وهما رئيس الجمهورية اميل لحود مستقوياً بالرئيس بشَّار الأسد ومَنْ يلوذ به من ابناء الطائفة المارونية وبعض القوى السياسية والحزبية اللبنانية وأبرزها «حزب الله» و«حركة أمل» (اي 90 في المئة من شيعة لبنان) في مواجهة وليد جنبلاط ومَنْ يحيط به مِن قوى اسلامية سُنية في معظمها وقوى مسيحية تتساوى في عصبيتها مع القوى المسيحية المتحزبة للجنرال ميشال عون.

ومع انه عندما يُنشر الكلام او يُذاع، وبصرف النظر عما اذا كان على لسان الشخص او من خلال «مكتبه الإعلامي» او في صيغة مقالة في صحيفة او تصريح مبثوث او مطبوع، يصبح التذكير به واستحضار فقرات مما قيل مسألة مباحة، فإن المرء مثل حالنا، يعف عن معاودة عبارات وردت على ألسنة المتبارزين في حق بعضهم البعض او في حق مؤسسات دولية مُهابة الجانب، مع ان الذي يشير الى الشتيمة ليس شتَّاماً، كما ناقل الكفر الذي ليس بكافر.

وقد يلومنا القارئ لأننا نفعل ذلك ويكون فِعْلنا كمن يتستر على فضيحة، وهذا صحيح لولا ان الفضائيات والإذاعات والبيانات الرسمية وصفحات الجرائد اليومية نشرت وبثت وبذلك لم يعد المخزي من الكلام السياسي خافياً على احد.

مقابل هذا الذي نلاحظ انه لا يحدث إلاَّ في لبنان وبعض الاحيان في السودان والعراق وفلسطين، لم يحدث ان وجد قائد الجيش في اي دولة عربية او غير عربية نفسه يدخل غمار السياسة على نحو ما وجد قائد الجيش في لبنان العماد ميشال سليمان نفسه يفعل ذلك، ربما من اجل وضع امور معقَّدة في نصابها وربما من اجل وضع حد لفيضان الاتهامات الفورية للحكم السوري من انه وراء كل سيئ او ضيم يصاب به لبنان وربما من اجل تهدئة خواطر الجيش الذي يقوده والمصدوم، اي هذا الجيش وقائده، بالمنازلة الفولكلورية بين اهل السياسة، في وقت يخوض منازلة درامية سالت فيها دماء كثيرة وفاضت ارواح عزيزة خلال مواجهة.

وهو بعدما تمنى في مناسبات سابقة على اهل السياسة ان يخففوا من غلوائهم ويصونوا بالاتفاق او التوافق الوطن الذي اضناه العراك السياسي بعدما انهكت الحرب مفاصله وشتت عائلاته وبحيث ان لبنان الذي هاجر بات الوطن الفرع المنسلخ عن الوطن الاصل، نجده يوم الاثنين 13/8/2007 وفيما القذائف اللفظية المتبادَلة بين رئيس الجمهورية والنائب وليد جنبلاط على اشدها والكلام في شأن احتمال ان يكون هو الرئيس الذي سيخلف الرئيس لحود، يتحدث كقطب سياسي فيتمنى على رموز العمل السياسي كباراً وصغاراً «العودة الى تطبيق اتفاق الطائف نصاً وروحاً وتقديم التنازلات المتبادَلة حتى نتمكن جميعاً من العبور الى بر الأمان...». وفي السياق نفسه كان يدحض اتهام وزير الداخلية اللبنانية بأن المخابرات السورية هي وراء تنظيم «فتح الاسلام» الذي يخوض الجيش اللبناني منذ شهرين مواجهة طاحنة مع عناصره، وإنما، أي «فتح الاسلام»، جزء من تنظيم «القاعدة» خلافاً للتأكيدات الاميركية الرسمية بأن «فتح الاسلام» هي احدى الفصائل التابعة لـ«فتح الانتفاضة» المدعومة من سورية، فضلاً عن انه يرى ان «فتح الاسلام» ليست عصابة «لأن في ذلك تبخيساً لتضحيات العسكريين اللبنانيين ودمائهم...» وإنما افراد هذا التنظيم «مدرَّبون تدريباً عالياً ومزوَّدون بأحدث الاسلحة، من البندقية حتى المدفع والصاروخ، مع خبرة عالية في اعمال التفخيخ والتفجيرات، كما ان مخازن الاسلحة والذخيرة في المخيم اصبحت كلها في تصرُّفه ناهيك من الملاجئ والأنفاق والدُشم ومخازن التموين المعدَّة سلفاً والموجودة في المخيمات الفلسطينية كافة، لذلك لا يجوز التقليل من اهمية هذا التنظيم المسلَّح وامتداداته الداخلية والخارجية...».

وفي كلامه هذا يبدو العماد ميشال سليمان مثل رئيس الاركان التركي الذي عندما يتحدث سياسة فإنه كمن يوجه رسائل وبالذات الى اهل السياسة. ومع ان العماد سليمان اكد في سياق كلامه انه «باق في قيادة الجيش حتى الانتهاء من انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة» وسبق ان قال قبل ذلك يوم تكاثَرَ الحديث عن احتمال قيام حكومة ثانية في لبنان الى جانب الحكومة التي يترأسها فؤاد السنيورة انه في حال حدوث ذلك سيقدِّم استقالته الى الحكومتين، فإن المرء ليحتار وهو يقرأ ما بين سطور كلامه في امر قائد الجيش الذي يبدو وضعه مثل وضع قائد الجيش الاول في المؤسسة العسكرية الجنرال فؤاد شهاب الذي استدعاه يوم 18 سبتمبر (ايلول) 1952 الشيخ بشارة الخوري، اول رئيس للبنان بعد الاستقلال، وكان يعيش ازمة سياسية بالغة الحدة، الى منزله ليقول له: «هذا هو الدستور بين يديك كقائد للجيش، احتفظ به وحافظ عليه». ويومها شكَّل فؤاد شهاب حكومة من ثلاثة كان هو احدهم وهذه مهدت لانتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية. ثم بعدما انتهت الولاية بـ«ثورة» لمصلحة عبد الناصر جرى التوافق على فؤاد شهاب ليكون رئيس البلاد من 23 سبتمبر 1958 الى 23 سبتمبر 1964 وذلك لأن قائد الجيش زمنذاك ابدى على نحو قائد الجيش اليوم من الزهد بالمنصب ما جعل الرئاسة تسارع الخطى اليه.

وعلى هذا الاساس قد يكون كلام ميشال سليمان على نحو ما اوردنا فقرات منه، هو الخطوط العريضة لبيان وزاري لحكومة سيشكلها بتكليف من سَلَفِهِ في قيادة الجيش الذي ترأس الجمهورية اميل لحود على ان يكون كما الذي حصل للجنرال فؤاد شهاب، هو رئيس الجمهورية المستقرة للعام 2013. وهنا نلاحظ ان كلامه قيل يوم 13 اغسطس وقيل بينما رأس المرجعية المسيحية البطريرك الماروني نصر الله صفير يقول في اليوم نفسه: «ان الوضع سيئ والناس لم تعد تحتمل، والله وحده قادر على انقاذنا ومساعدتنا...».

ونخلص الى التساؤل: هل ان اليوم اشبه بالبارحة، أم ما ابعد صيف اميل لحود ـ ميشال سليمان عام 2007 عن صيف بشارة الخوري ـ فؤاد شهاب عام 1952؟