نقابات من ورق

TT

ما يحدث في بعض النقابات الفنية العربية، يؤكد أن «الجنون فنون» بالفعل، وإلا فكيف يصدر رئيس نقابة المهن التمثيلية في مصر، أشرف زكي قراراً يمنع فيه غير المصريين من التمثيل في بلاده، ما لم يكونوا منتمين لنقابات في بلادهم أو قادرين على الإتيان بترخيص منها. ألا يعلم السيد النقيب أن فنانين كباراً في العالم العربي، هم خارج التنظيم النقابي، وإننا ننتمي لبلدان نقاباتها مسيسة أكثر من حكوماتها. ما فعله السيد النقيب في مصر، يشبه أن يصدر اتحاد الكتاب اللبنانيين غداً، قراراً يقضي بعدم نشر أي كتاب لغير لبناني، ما لم يكن عضوا في اتحاد كتاب بلاده، وعندها ما على دور النشر إلا أن تغلق أبوابها، وللمطابع ان تسرح عمالها. فهل سيسأل نقيب المهن التمثيلية، كاظم الساهر إن كان عضواً في نقابة فنية في العراق، لو عرض عليه دور سينمائي في القاهرة، أم أنه سيتهاون بشأنه، ويغلق الأبواب في وجه موهوب اقل شهرة.

وكانت نقابة الفنانين السوريين قد استفاقت مؤخراً، محاولة ضبط كل من يعمل بالمجال الفني دون الاحتماء بظلها، واضطرت للاستعانة بالشرطة لتنفيذ نزواتها، وطرد من رحمتها أكثر من مئة فنان، بينهم كبار مثل دريد لحام والمخرج هيثم حقي، بسبب عدم تسديد اشتراكاتهم. وما نعرفه أن الفنانين هم من يسعون عادة للاستظلال بفيء نقاباتهم، مثلما هو حال الكتاب والصحافيين والرسامين والراقصين، في الدول التي تحترم كيان مبدعيها وتمنحهم حقوقهم. لكن النقابات العربية المهترئة، باتت من الإفلاس بحيث تطارد أصحاب المهنة فيلوذون منها بالفرار. وهي صورة كاريكاتورية تستحق أن ترسم وتكبّر، وتعلق على باب كل نقابة فنية عربية تسعى لأن تخرج من ظلمتها، وتمارس النقد الذاتي، الذي وحده، يمكن ان يعيد الأمور إلى نصابها.

ولعل أنصع دليل على تهاوي العمل والفكر النقابيين، هو ذاك الاجتهاد العجيب الذي خرج به نقيب الفنانين السوريين، مانعاً العديد من الفنانات من الغناء في سوريا بينهم هيفاء وهبي واليسا وروبي «للحد من التلوث الأخلاقي الذي يسببه الغناء المنتمي الى العري أكثر من انتمائه لفن الغناء»، بحسب رأي النقيب صباح عبيد. فإذا كان من يتربعون على قمم النقابات الفنية، ويفترض بهم الوعي والانفتاح، يفكرون على هذا النحو، فلماذا الهجوم على شيخ مثل يوسف البدري في مصر، حين يتصدى لمحاكمة كتاب ومبدعين؟ والأدعى للاهتمام، أن يعنى الفنانون والمثقفون بتشكيل هيئات وجمعيات وتكتلات أهلية لا رسمية، توحد شملهم، وتمثل تطلعاتهم، بدل أن يستسلموا لهيئات لها حسابات لا تمت إلى الفن وأهله بصلة. فهل مقتنع السيد عبيد نفسه، أن بمستطاعه تعقيم الأخلاق السورية بمنع عدة حفلات، في ما التلفزيونات تغرق مشاهديها بطوفانات إباحية.

وطالما أن الفنانين والكتاب، والعاملين بالمهن الإبداعية، ما يزالون يصلون في نهاية المطاف إلى العوز، ويتطببون في آخرتهم، بالهبات ومساعدات الموسرين وفاعلي الخير، فليس لنقابات مشلولة وصورية، أن تفرض شروطها على أحد.

وبما أن هذه النقابات تتذرع بتنظيم المهن وحفظ الحقوق، لتفرض هواها على الفنانين، فهي محقة في العنوان العريض فقط، أما في التفاصيل، فإنك لا تستطيع ان تبدأ من النهاية، وأن تلزم الفنان بشروطك ما لم تغره بجزرة.

من المحزن أن تذهب بعض النقابات الفنية العربية إلى الحجّ والناس راجعة. فلم تعد الفنون تحتاج لرخصة يا إخوان، وبمقدور من يريد إخراج فيلم أن يصوره بكاميرا جواله، ويوزعه على أقراص مدمجة أو حتى عبر الانترنت ويوصله إلى انحاء الدنيا. وصار في السينما ممثلون افتراضيون، وشخصيات لا نستطيع أن نقبض عليها بأصابعنا، فهل سنلحق هؤلاء، عنوة أيضاً بالنقابات.

يجهد فلاسفة وأكاديميون غربيون، لتقديم تصورات عن المشكلات المستقبلية تسعف في تطوير قوانين، تناسب ثورة معرفية وتواصلية، لم تعرف الخليقة، لها مثيلاً، منذ وجدت على سطح الأرض، وتنبش الهيئات النقابية عندنا، في تطبيق قوانين، كان يفترض انها طبقت منذ خمسين سنة، في ما اليوم نبحث عن غيرها، بسبب انتهاء مدة صلاحيتها.

وبمناسبة الكلام على الاحتراف والانضواء تحت مظلة النقابات، فقد أتحفتنا المخرجة اللبنانية نادين لبكي بفيلم «سكر بنات» الذي وصل إلى مهرجان كان، بأداء ممثلين أغلبهم من خارج عالم الاحتراف، ولا يعرفون، على الأرجح، عنوان نقابة الفنانين اللبنانيين. وأسوأ من ذلك أن الفيلم جريء جداً، ويحكي قصصاً نسائية، يمكن تصنيفها، بسهولة، بأنها مسيئة ومخلة بالأدب، من قبل «حماة الأخلاق»، لو هم ارادوا، أو يعتبرونها تصويراً لواقع مريع، لو احبوا. ويحل «سكر بنات» هذه الأيام ثانيا في شباك التذاكر الفرنسي بعد الفيلم الكوميدي الاميركي «ايفان القوي»، وحصد يوم وصوله إلى الصالات في 15 أغسطس الحالي حوالي 30 ألف بطاقة دخول بينما حقق الفيلم الأول بحدود 32 ألف بطاقة. فهل يتوجب على نقابة الفنانين اللبنانيين أن تقيم دعوى ضد نادين لبكي، أم تسجن الممثلين المشاركين معها. وفي سوريا كما في مصر، وهما البلدان المعنيان بالقرارات النقابية الطالعة من منتصف القرن العشرين، ليس اكثر من النتاجات الفنية التي تنمو في الظل، وتنتشر بين الناس كالنار في الهشيم، وبينها الأغنيات والأفلام والصور والكتابات. وهذه جميعها تفعل فعلتها في الجيل الجديد، الذي لا ينتظر رخصة لا من اشرف زكي ولا من صباح عبيد، ولا حتى من الأهل في البيت. ورحم الله امرءا عرف حده فوقف عنده.

[email protected]