الله لا يعطيهم عافية

TT

من المواقف غير المتوقعة التي حصلت وكنت طرفاً فيها: أنه في سنة من السنوات كنت أسكن في مدينة (فلورنسا) الإيطالية في شقة في الدور الثامن بإحدى العمائر، وبالصدفة كنت واقفاً أمام الشباك المفتوح أطل على الشارع، واستنشق الهواء العليل في شهر (نيسان) الربيعي المشمس، وإذا بصديق عربي يمشي على الرصيف المحاذي للعمارة، وما أن شاهدني في الشباك حتى توقف، وأخذ يحدّثني بصوت مرتفع عن نتيجة مباراة كرة القدم التي حضرها أمس، كان يصرخ وهو يتكلم بحماس، وكان خلالها كثير الإشارات بيديه، وكثير الحركات برجليه، ورأسه مرفوع دائماً إلى أعلى.

وخلال ذلك، وإذا بي أشاهد امرأتين عجوزين تسيران على الرصيف الخالي في ذلك الشارع الهادئ، فتوقفتا بجانبه وحاولت إحداهما أن تهدئ عليه، غير أنه واصل كلامه من دون أن يعبأ بهما، وحيث انه كان يتكلم معي بلغتنا العربية بالطبع، فإن المرأتين لم تفهما ما يقول.. ويبدو لي أنهما اعتقدتا أنه مجنون يكلم نفسه.. لأنهما تركتاه، وما هي إلاّ دقائق وإذا بهما تعودان ومعهما رجل بوليس.. وعندما شاهد صديقي رجل البوليس توقف عن الكلام، ولم أسمع ما دار بينهم، لكنني لاحظت أنه يشير لي ويطلب منهم أن يرفعوا رؤوسهم إلى الأعلى، وعندما شاهدوني عرفوا أنه كان يكلمني، وإذا بهم جميعهم ينفجرون ضاحكين ثم يتفرقون.

* * *

في إحدى المرات القليلة دعوت مجموعة من الأصدقاء في أحد المطاعم ـ ولا بد أن أعترف لكم أنني نادراً ما أدعو أي أحد لتناول الغداء أو العشاء أو الفطور، أو حتى تناول فنجان من القهوة لا في منزلي ولا في أي مطعم، وهذا في الواقع ليس بخلاً مني، أبداً والله، إنما هو فقط من أجل توفير نقودي.

المهم أنني في تلك المرة من المرات النادرة، (اندبّيت على مناخيري) وانهبلت وعزمت هؤلاء الأشخاص مثلما قلت لكم، وكان ذلك المطعم كبيراً وممتلئاً بالطاولات والزبائن، وهو أي المطعم (كويّس ورخيّص وابن ناس) مثلما يقولون. وتناولنا أول طبق، وانتظرنا الطبق الثاني، وطال بنا الانتظار، والمشكلة أن (الغراسين) ـ أي المستخدمين ـ منشغلون ومتحمّسون وسريعو الحركة بين الطاولات، وكلهم لاهون عن إشاراتنا لهم، بتحقيق طلبات الآخرين، وهم في الواقع ليسوا متعمدين إهمالنا، غير أن قِلّتهم بالنسبة لكثرة الزبائن جعلتهم لا ينتبهون لنا، ولا يردون على نداءاتنا.

وعندما عيل صبري ما كان مني إلاّ أن اتصل بتليفوني (الموبايل) بالمطعم، وأطلب رئيس (الغراسين)، وعندما رد عليّ قلت له: هل تشاهد الطاولة التي في الركن الفلاني، وتحت الشباك الفلاني، وأمام العمود الفلاني، والجالس عليها ستة أنفار أحدهم بلحية تشبه لحية التيس، والثاني وجهه مجدور، والثالث يلبس (كسكتة)، والرابع يضع نظارة شمسية لأن في عينيه شيئاً من الحول، والخامس لا يجلس على كرسي واحد، وإنما على اثنين من ضخامة بدنه، والسادس الذي هو (أنا) يلبس قميصاً لونه (بوردو) وياقته مفتوحة؟! فقال لي: نعم إنني شاهدتكم، ماذا تأمر؟! قلت له: ابعث لنا أحد (الغراسين)، وما هي إلاّ دقيقة وإذا بطلبنا جاهز، وأكله الأصحاب الله لا يعطيهم عافية.

[email protected]