أزمة كهرباء غزة ودروسها الكبيرة

TT

ساد الظلام مدينة غزة لأيام، ثم عاد النور وعم المدينة. ولكن الظلام الكثيف ظل سائدا بين رام الله وغزة. لم تستطع كل أنوار الكهرباء أن تبدده.

رسميا.. يتحمل الاتحاد الاوروبي مسؤولية قطع الكهرباء عن مدينة غزة، فهو الذي أعلن أنه توقف عن دفع ثمن الوقود الذي تقدمه إسرائيل لتشغيل محطة الكهرباء. عمليا.. هناك من يقول إن السلطة الفلسطينية في رام الله هي المسؤولة عن ذلك، وبشكل محدد رئاسة حكومة تسيير الأعمال. والسلطة نفسها ترد التهمة وتقول إن تصرفات حركة حماس التي تسيطر على غزة هي المسؤولة عن ذلك.

ما هي الاتهامات التي وجهتها السلطة الفلسطينية إلى حركة حماس وإلى حكومة اسماعيل هنية المقالة، والتي تعتبر نفسها حكومة تصريف الأعمال الشرعية؟

الاتهام الأول: إن حركة حماس أقالت المسؤولين عن (شركة الكهرباء) وعينت مسؤولين من حماس بدلا منهم.

الاتهام الثاني: إنها تستولي على الأموال التي تجمعها (شركة توزيع الكهرباء) وتأخذها لنفسها.

الاتهام الثالث: إن (القوة التنفيذية) تسرق وقود شركة الكهرباء من أجل تشغيل سيارات القوى الأمنية.

الاتهام الرابع: إن الفدائيين التابعين لحركة حماس قاموا بحفر نفق أسفل المنطقة التي يمر منها مسار نقل وقود الكهرباء، قريبا من معبر (ناحال عوز) الذي يستخدم للتبادل التجاري ودخول البضائع عبر إسرائيل إلى قطاع غزة. ودفع وجود النفق إسرائيل إلى إغلاق المعبر.

هذه الاتهامات أعلنها رياض المالكي وزير الإعلام، بل أعلن أكثر من ذلك، دعوة علنية إلى جماهير غزة للتظاهر ضد حماس من أجل إسقاط سيطرتها على غزة، بسبب مسؤوليتها عن انقطاع الكهرباء. وكل هذه الاتهامات وصلت بصورة شبه رسمية (كي لا نقول رسمية) إلى قادة الاتحاد الاوروبي، الذي بادر فورا إلى الإعلان عن توقفه عن دفع ثمن الوقود للشركة الإسرائيلية المعنية، فما كان من الشركة الإسرائيلية إلا أن بادرت فورا إلى وقف إمدادات الوقود. وهكذا غرقت غزة في الظلام.

جاء الرد على هذه الاتهامات من حركة حماس رسميا. أعلنت نفيها لكل الاتهامات، ولم يصدقها أحد. بينما تواصل تأكيد الاتهامات من رام الله أياما والكل يصدقها، من اوروبا إلى إسرائيل. وبينما كان رياض المالكي يواصل مؤتمراته الصحافية بمتعة ملحوظة، وفجأة بدا وكأن لمسة الحنان قد جاءت من رام الله. أعلنت رئاسة السلطة أن الكهرباء ستعود إلى قطاع غزة بعد أيام. وأعلنت رئاسة الحكومة أن محادثات جرت بين رئيس الحكومة سلام فياض وبين مسؤولي الاتحاد الاوروبي، واتفقا على إعادة تمويل الوقود، شرط أن تلتزم حماس بعدم الاقتراب من أموال الشركة. وظهر رياض المالكي ليتحدث «مستمتعا» كما هي العادة، عن إنجاز السلطة، وعن فشل حماس ومسؤوليتها عن الأزمة التي أرهقت الناس. وصباح يوم الاربعاء 22/8/2007، شعشعت الأنوار في الشوارع والبيوت، وعادت آلات المستشفيات لتعمل كعادتها.

ولكن، وراء هذه الصورة الزاهية تكمن مأساة قاسية. مأساة قيادات فلسطينية تعمل ضد شعبها. مأساة مسؤولين مستعدين لممارسة العقاب الجماعي الذي كان وقفا على إسرائيل. وتظهر المأساة على حقيقتها عندما نتابع حلقات الرد على الاتهامات التي وجهت، والتي بني عليها موقف دولي.

الرد الأول على الاتهامات لم يأت من حركة حماس، بل جاء من مسؤولين في سلطة الطاقة الحكومية، ومن مسؤولين في شركة الكهرباء التي تملكها شركة (سي. سي. سي) العالمية، وهي شركة مملوكة لمتمولين فلسطينيين كبار.

كنعان عبيد نائب رئيس سلطة الطاقة، قال للصحافيين يوم 20/8/2007، ما يفيد بأن وقف إمدادات الوقود للمحطة تم بناء على «تحريض من بعض السياسيين». رافضا أن يوضح من هم هؤلاء السياسيون، ولكنه بادر لينفي، حسب ما نقله الصحافيون «الاتهامات التي وجهها مسؤولون في حكومة فياض لحكومة هنية وحماس». ونفى عبيد بشكل خاص التهمة القائلة بأن حركة حماس تستولي على أموال (شركة توزيع الكهرباء)، وقال «إن شركة التوزيع تودع الأموال التي تجبيها من المواطنين نظير استهلاكهم التيار الكهربائي في البنوك من دون أن تمسها أية جهة، ودعا إلى الاطلاع على حسابات الشركة في البنوك، والاستيضاح من شركة (سابا) العالمية المسؤولة عن تدقيق حسابات الشركة للتأكد من أنه لا الحكومة ولا حركة حماس تمس هذه الأموال».

هذه المعلومات التي تنقض الاتهامات، والتي جاءت من جهة محايدة، وصلت إلى الاتحاد الأوروبي بواسطة مندوبيه الموجودين في غزة والضفة. ووصلت إليه أيضا تأكيدات مماثلة من حركة حماس، ودفعته هذه المعلومات إلى مراجعة موقفه، والعودة إلى تمويل نفقات الوقود القادم من إسرائيل.

تأكيدات حركة حماس وردت في رسائل بعثت بها إلى الاتحاد الأوروبي، كشف النقاب عنها إسماعيل هنية في كلمة ألقاها في ذكرى حريق المسجد الأقصى، وقال فيها:

أولا: نحن نتحدى أن يكون مليم واحد، أو أي لتر وقود، يذهب في غير وجهته، لاسيما أن ممثلي الاتحاد الاوروبي يرافقون كل سيارة وقود إلى محطة توليد الكهرباء في غزة.

ثانيا: قلنا للاتحاد الاوروبي: نحن لا نأخذ ضرائب إضافية من أي مواطن، وبالتالي لا توجد أي موانع سياسية تحول دون إيصال الوقود.

ثالثا: إننا مستعدون لاستقبال لجنة تحقيق محايدة تأتي إلى غزة، وتكون نتائجها معلنة.

رابعا: إذا كان الاتهام يتركز حول اعتقال بعض المسؤولين في شركة الكهرباء، فهذا الاعتقال تم بسبب تورطهم في عمليات فساد، ونحن سنستمر في فتح ملفات الفساد.

والنقطة الأخيرة في كلام اسماعيل هنية تستحق الوقوف عندها، فمن هم هؤلاء المعتقلون من شركة الكهرباء بتهمة الفساد؟ إنهم حسب التحقيقات، شخص في غزة يقف وراءه شخص في رام الله، وتقف وراء الاثنين شبكة فساد أوسع. مدير في شركة كهرباء غزة (ومن دون ذكر الأسماء) معتقل بثلاث تهم من بينها التلاعب بأموال الاتحاد الأوروبي عبر ترتيب مشاريع وهمية. ومدير آخر في وزارة المالية برام الله (ومن دون ذكر الأسماء) متهم بأنه المنسق والموجه لنشاط المدير المعتقل في غزة، وأنه حلقة الوصل مع المستفيدين الكبار من كل ذلك.

المدير في وزارة المالية في رام الله، هو الذي أدار أزمة الكهرباء في غزة. هو الذي اشاع الاتهامات الكاذبة، وهو الذي قام بنقل الاتهامات الكاذبة إلى مسؤولي الاتحاد الأوروبي، وهو أيضا الذي بعث إلى حماس، وعن طريق الوسطاء، رسالة مفادها بأن إطلاق سراح رجله المعتقل في غزة هو فقط الذي سيعيد تدفق الكهرباء إلى القطاع. ولكن لعبته انكشفت ولم تستطع أن تصل إلى غايتها.

هل يمكن القول الآن إن أزمة الكهرباء في غزة قد انتهت؟ لقد انتهى الشكل ولكن المضمون لا يزال قائما، ويحتاج إلى مراجعة شافية وعميقة. يحتاج إلى مراجعة ضمير. يحتاج إلى وقفة أمام هذا الاستعداد لتدبير أية تهمة من أجل معالجة الخلاف القائم بين رام الله وغزة. يحتاج إلى وقفة من أجل هذا الاستسهال في فرض عقاب جماعي على مليون نسمة من أجل الاستقواء في الصراع السياسي الدائر. يحتاج إلى إعطاء أذن صاغية لتحقيقات الفساد في شركة الكهرباء في غزة وامتدادها إلى الضفة الغربية، من أجل كشف هذا الفساد وضربه وإلغاء وجوده. يحتاج إلى وقف تغطية أي فاسد يعتقل، من خلال القول بأن اعتقاله تم لأهداف سياسية، إذ لا يجوز للخوف أو للضيق أو للحقد أن يتجاوز المشاعر الشخصية إلى نطاق السياسة، وإلا فإن دائرة الخطأ ستتسع وتتسع إلى أن تقضي على الجميع.