على أعتاب تقرير باتريوس: هل حقا فشلت استراتيجية الاندفاع؟

TT

قبل بضعة اشهر من اليوم، كتبت على هذا العمود مقالة حول الاستراتيجية الجديدة للرئيس بوش، التي اطلق عليها استراتيجية الاندفاع Surge وقلت فيها إن «الاندفاع.. يفترض ضرورة التعاطي بهجومية غير مسبوقة مع القضايا المؤجلة» وأن «أمريكا مع «الاندفاع» اقرب الى استعادة المبادرة، لأنها أخذت تفعل ما تفعله اي قوة عظمى، ان تدير تناقضات الآخرين، لا أن تكون جزءا منها»، واليوم نقترب من النقطة التي لا بد وأن يتم عندها تقويم تلك الاستراتيجية، وإعلان شهادة نجاحها أو وفاتها من قبل المسؤول المباشر عنها: الجنرال باتريوس.

الإدارة الأمريكية سبقت الحدث بمساع لجعل قراءة التقرير غير علنية، ربما لمنحها فرصة الاستعداد لردود الفعل او للبدء بمبادرة ما تمتص أي ضغوط ينتجها التقرير، لذا سيبدي باتريوس من الحكمة، بحيث انه لن يحرق مضامين تقريره بشكل عاجل، وبحيث انه يحافظ على مسافة واحدة تجاه البيت الابيض والكونغرس، تضفي على ما سيقوله احتراما كافيا لمنع بعض المنزعجين من الطعن في مصداقية تقريره، أو من ان يكون لطعنهم مصداقية عالية. وبعد كل شيء فإن تأكيد الرئيس بوش المتكرر بأنه يترك مسؤولية تقرير وضع القوات الامريكية في العراق الى العسكريين يمنح هذا التقريرأهمية كبيرة حتى مع تصريحات حكومية من هنا او هناك قد تحاول التقليل من شأنه، وحتى مع كون السفير كروكر المقرب من الادارة سيسهم في صياغة التقويم الأمريكي للوضع العراقي.

وهناك ميل لدى البعض من المحللين والكتاب والمواطنين العرب الى تبسيط الاشياء، والى فهمها مجردة من تعقيداتها ومنسجمة مع المنطق الثنائي الذي تتبناه الذهنية العربية، حيث المساحة الرمادية بين الأبيض والأسود تضيق الى حد التلاشي. غير ان حقيقة الاشياء تبرهن ان اللون الطاغي على خريطة العالم هو الرمادي، وان احداث العالم اكثر استعصاء على التصنيف الحاد، وان باتريوس ربما لن يشبع نهم الجائعين الى اعلان صريح بالفشل، كما لن يروي ظمأ الادارة الامريكية المترقبة لشهادة نجاح بعد زمن من الاخفاقات التي تراكمت على بعضها لتخلق مشهد الرئيس الحالي، وكأنه الرئيس الامريكي الأكثر عزلة عن رأيه العام.

من الصعب الحديث بيقينية عن ما سيقوله باتريوس، لكن الشيء المؤكد انه لن يعلن نصرا ساحقا، ولن يعلن هزيمة مدوية، سيقول الى حد ما الحقيقة لكنه لن يجردها من قراءته لما يمكن ان يحصل في قادمات الايام، ومن نظرته كعسكري امريكي لأهمية الحفاظ على هيبة امريكا، ولذلك فإن ما سيقوله سيبدو رماديا الى حد كبير، وتلك هي الحقيقة. فمن الواضح ان بغداد لم تصبح بعد ستة اشهر من بدء «الاندفاع»، مدينة آمنة، الا انها بالطبع ليست نفس بغداد قبل ستة اشهر، لم يحصل تغير استراتيجي، لكن سلسلة من التغيرات التكتيكية تراكمت لتصبح ربما ذات قيمة استراتيجية.

ما يعرف بالمناطق الساخنة في بغداد غدت اكثر هدوءا بعد ان نجح الامريكيون في قلب ولاء البيئة الحاضنة لمقاتلي القاعدة وتسليم الزعامة الأمنية لجماعات سنية خلعت عن نفسها ثياب المقاومة، وأخذت تندرج تدريجيا في اللعبة السياسية، على الاقل من حيث فرض نفسها قوة على الارض. في مناسبات سابقة تم خلالها تأمين مناطق ساخنة كان القاعديون وحلفاؤهم ينسحبون الى مناطق غرب العراق، وتحديدا محافظة الانبار حيث تقع قواعدهم الرئيسية والبيئة الديموغرافية والجغرافية الاكثر انسجاما معهم، اما الجديد اليوم فهو حقيقتان: الاولى أن القاعديين باتوا يفتقرون للحلفاء، وثانيا ان الانبار وعموم المنطقة الغربية لم تعد مستقرا آمنا لهم.

ربما حصل الاختراق الاهم في الانبار، خاصرة بغداد الغربية التي كان رسل الموت يفدون منها محملين بآلة القتل وعقيدة الافناء والشغف بالجنة الموعودة، واليوم توجد في الانبار قوة عشائرية سنية تقاتل القاعدة، وتفرض نفسها رقما جديدا وفاعلا في المعادلة السنية، وربما بديلا ذا مصداقية للاحتكار الذي مارسته بعض القوى على الصوت السني.

لقد نجحت الاستراتيجية الامريكية في انطاق الخزين المجتمعي السني بعد زمن من المصادرة المدمرة من قبل القاعدة وحلفائها، ولذلك فإن المراهنة على استغلال الايام المقبلة قبل إعلان التقرير للقيام بعمليات تفجيرية جديدة وضخمة في بغداد، لكي تعزز الانطباع بأن الأمن لم يتحقق هناك وتؤثر في صدى التقرير أو طريقة تلقيه تبدو مراهنة اضعف من قبل، ذلك ان القاعدة المنشغلة بقتال حلفائها السابقين أو المطاردة في مستقراتها التقليدية لم تعد تجد مشاركا سنيا كبيرا لهدفها الاستراتيجي بإخراج الامريكيين من العراق.

الذي يطوف بغداد اليوم يجدها مدينة من الحواجز والإجراءات الأمنية الصارمة التي تجعل الانتقال بين أحيائها وشوارعها عسيرة، وذلك يوحي باستعداد أمني لاحتمال وجود استراتيجية تصعيدية لدى القاعدة، قبل صدور التقرير المنتظر، في الوقت الذي يوجه ضغط كبير على الميليشيات الشيعية الداخلة في قتال مسلح مع الأمريكيين يوازيه ضغط اعلامي على ايران ودورها في العراق في عين الوقت الذي تتشكل فيه لجنة مشتركة لإدارة شكل من التعاون الأمني معها في العراق، وكل ذلك ينصب في مسعى تعطيل الجهد الايراني لإحراج الادارة قبل صدور التقرير.

سياسيا، يبدو الأمريكيون ضالعين بالدور الذي يرغبونه، أي الموازنة بين الأطراف العراقية، حيث نجحوا الى حد كبير في كسب الموقف السني من دون ان يخسروا تماما الموقف الشيعي، وهم يطرحون انفسهم كصديق لجميع الفرقاء وكجزء من الحل لصراعاتهم وليس جزءا من المشكلة. اليوم يمكن القول بسقوط الاسطورة القائلة بأن الشيعة تحالفوا مع الامريكيين ضد السنة، مما يبرر قتال الامريكيين كجزء من معركة السنة، انقلبت المعادلة لصالح الامريكيين، ولم يعد قتالهم جزءا من المعادلة الرئيسية لأحد، سوى بعض الجماعات السنية والشيعية الأكثر راديكالية، وهي في راديكاليتها وبمفارقة تخدم الهدف الأمريكي بالبقاء لمواجهة خطر القاعدة «التطرف السني» وخطر ايران «التطرف الشيعي».

الحقائق على الأرض بدأت تتغير بشكل قد لا يخدم هدف الديمقراطيين بانسحاب سريع وشامل، ومن دون أن تخدم هدف الجمهوريين ببقاء طويل ومفتوح، ولذلك سيجد بوش طريقا يجمع بين خفض القوات وبقائها.