شخصية لندنية لا أنساها

TT

لم أكن اعرف اسمها ولا هويتها ولكنني الفت لقياها في شارع شيرنغ كروس بلندن عند تقاطعه مع ساحة كيمبرج سركت. كانت امرأة صغيرة الحجم، نحيفة البدن وبصوت ناعم لا يقل نحافة عن نحافة جسمها. كنت اسمعها تقف على الرصيف في طريق المارة وتردد بصوتها النحيف: بيس نيوز، بيس نيوز ... اقرأ بيس نيوز (اقرأ اخبار السلام).

كان ذلك العهد عهد الحرب الباردة وتوقعات نشوب حرب بين العالم الرأسمالي الغربي والعالم الشيوعي الشرقي. جرى عندئذ نشاط كبير بين محبي السلام وشاعت في العالم ما سميت بحركة انصار السلام. انها ايام حمامة السلام التي خلدها الرسام الاسباني بيكاسو في لوحته «حمامة السلام». وفي شتى الميادين عمد انصار السلام الى حمل تلك العلامة على ثيابهم. وفي العراق كانوا يعتقلون من يجدونه قد علق حمامة السلام على ياقة سترته. وفي إطار هذا المجهود صدرت في سائر البلدان الصحف والمجلات المكرسة كليا لحركة انصار السلام، وكان منها في بريطانيا صحيفة «بيس نيوز» التي كان لي الشرف في المساهمة بالكتابة فيها.

لم تكن تلك السيدة ممن كتبوا فيها ولكنها اعتبرت من واجبها المساهمة في ترويج هذه الصحيفة وبيعها في شارع شيرنغ كروس. يوما بعد يوم، وتحت المطر والثلج وفي اشد ساعات النهار برودة وقسوة، كانت تقف، احيانا بمظلة واحيانا حتى بدون مظلة، تتأبط تحت ذراعها اليسرى لفة من هذه الجرائد وتمسك باليمنى احد اعدادها لذلك الاسبوع وتقاطع ضجيج التكسيات والحافلات والشاحنات بصوتها الصغير، بيس نيوز ... اقرأ بيس نيوز.

بيد ان هذه الصحيفة الهامشية اخذت تواجه صعوبات مالية وتقلصت مبيعاتها بتقلص حركة انصار السلام وقلت تبرعات المحسنين اليها. حاول محررها بل هاردي ان يزيد من شعبيتها ويجتذب المزيد من القراء، ولاسيما الشباب منهم، بنفس الذريعة التي تلتجئ اليها معظم الصحف والمجلات، بل وحتى الشركات التجارية. اعني بذلك تحلية المطبوعات بالصور الخلاعية. كانت نكبة كبيرة ان تضطر تلك الصحيفة المحترمة، بيس نيوز، الى نشر صور الحسناوات العاريات او شبه العاريات بشتى الذرائع والتبريرات.

تضايقت سيدتي الفاضلة من هذا المنحى وعندما عمدت الصحيفة الى وضع صورة حسناء عارية على صفحتها الاولى، لم تطق صبرا على ذلك فجاءت بالمقص وقصت تلك الصورة من الجريدة واخذت تبيعها وتوزعها مقصوصة من الأمام ودفعت هي من جيبها ثمن النسخ التي باعتها للجمهور مجانا، وهي تنادي بصوتها الصغير: «بيس نيوز مجانا... اقرأ بيس نيوز مجانا...».

وكانت وبقيت في ذهني من الشخصيات اللندنية التي خلدت في ذاكرتي الى اليوم.