لبنان: لو أن هناك مثل الجنرال فرانكو؟

TT

هل ان لبنان على ابواب حرب أهلية جديدة؟ إذا تابعنا تصريحات «الأقطاب» السياسيين المنتسبين الى كل الاطراف، نشعر بأن لبنان يفتقد لدى اللبنانيين، والسياسيين بالذات، حس الهوية الوطنية.

إن الحرب الاهلية، التي كان يطلق عليها حرب الغرباء على أرض لبنان لم تنته، والدليل ان المجتمع اللبناني منقسم على ذاته، ومهيأ للاشتعال في اي لحظة، وسبب ذلك ان اللبنانيين رفضوا اجراء مصالحة وطنية، ومصارحة في العمق، ومراجعة اسباب الحرب ونتائجها من اجل البدء في مرحلة جديدة، كبت الجميع ذكرياته عن تلك الحرب المريرة ورفضوا ان يتصالحوا مع ماضي وطنهم، ليس خوفاً على مشاعر الآخر، انما خوفاً من اكتشاف ذاتهم والقعر الذي وصلت اليه.

في هذه المرحلة، وكأن ذكريات حرب 1975 التي طالت 15سنة، عادت تتدفق عبر تصريحات السياسيين وتهديداتهم، وكلهم يضربون مصالح لبنان على المدى البعيد ومصالح الشعب بعرض الحائط. هناك تهديدات بعودة تسلح الاطراف، وكلام كثير موثق وغير موثق عن بيع اراضي المسيحيين والدروز في الجنوب للشيعة. لم يصدر اي نفي عن هذا الأمر، انما صدرت تصريحات متكررة من رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» هاشم صفي الدين: «اننا في لبنان امام ثلاثة خيارات: إما الشراكة، وإما ان يبقى الوضع معلقاً او التقسيم» (طبعاً الشراكة المطلوبة، ليست بالبراءة التي تُصور بها). وكرر التهديد بأن البلد متجه الى التقسيم النائب من «حزب الله» محمد رعد. وكان رئيس التيار الوطني النائب الجنرال ميشال عون قال الاسبوع الماضي: «اذا كنتم تريدون التقسيم قولوا لنا ذلك».

عجقة التصريحات والتهديدات هذه هي بمناسبة اقتراب الاستحقاق الرئاسي مع فقدان الثقة بين الاطراف، حتى لدى النوع او التوجه الواحد. لا زال السياسيون في لبنان يعيشون على ماضيهم، لذلك تأتي كل تهديداتهم وتصريحاتهم لتُظهر انهم لم يدخلوا بعد القرن الواحد والعشرين، فلو كانوا يشعرون بأنهم صاروا في القرن الواحد والعشرين، لما ظل لبنان معلقاً على خشبة طموحاتهم الفردية. ان مشكلة لبنان ليست بشعبه انما بقادته. لو كان في لبنان رجال دولة يخططون، او حكومات فاعلة، لكان الهّم الوحيد معرفة ما سيكون عليه لبنان القرن الواحد والعشرين، وكيف سيكون التوزيع الديموغرافي بعد 75 سنة.

إذا عدنا الى القرن التاسع عشر، كان هناك جبل لبنان واغلبية سكانه من الموارنة والدروز، وكان زعماء الطرفين يتنازعون على السلطة وعلى حكم الجبل. وكان الموارنة وبقية المسيحيين يشكلون حوالي 78%. مع تنازع زعماء الموارنة وزعماء الدروز واتفاقاتهم مع الخارج شكلوا خريطة جديدة للبنان، بعد حربين الاولى عام 1840، قاتل اللبنانيون بعضهم البعض، ثم هدأوا لتندلع الحرب مجدداً عام 1860.

كان الخلاف بريطانياً ـ فرنسياً ولأجله تقاتل زعماء الدروز والموارنة. ما جرى في القرن التاسع عشر شبيه جداً بما جرى في نهاية القرن العشرين. عام 1975 وقعت الحرب توقفت مع اتفاق الطائف، والآن هناك تحركات وكأن اللبنانيين يهيئون لحرب جديدة.

في القرن العشرين، وُضعت خريطة جديدة للمنطقة ضمن التقسيمات التي خضع لها العالم كله وجاءت اتفاقية سايكس ـ بيكو ووعد بلفور، ورُسمت خريطة جديدة للبنان وضمت مقاطعات جديدة لـ«لبنان المتصرفية» مثل البقاع، ولاحقاً ضُمت بيروت، وطرابلس وصيدا (كانت كلها ولايات خارج جبل لبنان) عندها صار هناك وضوح ديموغرافي جديد. عام 1932 وبعد انشاء لبنان الكبير صارت نسبة الموارنة 33% والمسيحيين ككل 60%، مقابل 40% من المسلمين (دروز، وسنّة وشيعة).

وحسب مؤسسة «الدولية للمعلومات» وفي عددها الذي سيصدر اليوم الخميس، فانه في العام 2006 بلغت نسبة الموارنة 19% والمسيحيين 30%، وفي تحقيقها: «الطوائف اللبنانية تأكل بعضها وذاتها/ لبنان في القرن الواحد والعشرين: تراجع الوطن الماروني وبروز السني والشيعي»، وصلت مؤسسة «الدولية للمعلومات» الى نتيجة انه في عام 2116 ستصبح نسبة الموارنة 17% ونسبة المسيحيين ككل حوالي 27%، ولأن احتساب النمو السكاني يتم على فترة 75 سنة، فانه في العام 2081 لن يتجاوز عدد المسيحيين نسبة 11%، والموارنة 7%، وستختفي الكثير من الطوائف الصغيرة، وسينتهي التغني بلبنان الذي يضم 18 طائفة. وستصبح نسبة الشيعة 44% والسنّة 36%، ولأن النمو لدى الدروز لا بأس به، سيبقى الدروز على النسبة نفسها، ويمكن للزعيم الدرزي وليد جنبلاط ان يشعر بالاطمئنان على مستقبل الطائفة الدرزية لأنها ستكون 5.7% مقابل 6.9% للموارنة، لأن النمو لدى الموارنة أبطأ من نسبة النمو لدى الطوائف الاخرى.

ويقول مدير مؤسسة «الدولية للمعلومات» جواد عدرا «ان الوضع الديموغرافي الذي سيصل اليه لبنان، يقضي على فكرة الكانتونات التي تتردد حالياً، ثم ان الطوائف التي تزداد نسبتها ستتوسع جغرافياً، فماذا سيحصل بالطوائف الاخرى؟ هل يكون الحل بالابادة الجماعية؟».

ويضيف «ان الطرح الأهم هو ان زعماء الدروز وزعماء الموارنة «اكلوا بعضهم بعضاً» في القرن التاسع عشر، وان زعماء السنّة وزعماء الموارنة اكلوا لبنان وتآكلوا هم انفسهم. الآن يبرز شيء اسمه السني والشيعي، ولن يكون مصير لبنان افضل مع زعماء السنّة وزعماء الشيعة عما كان عليه مع الزعماء الذين سبقوهم». أمام هذا الوضع القاتم، يبرز حل يبدو انه لا مفر منه اذا كان اللبنانيون يريدون الحفاظ على بلدهم ومستقبلهم ومستقبله، وهو العلمنة، أاي فصل الدين عن الدولة. ولو بدأ الموارنة بوضع هذا الهدف منذ اربعين سنة عندما كانوا الحاكمين، لما وصل لبنان الآن الى مواجهة أصولية شيعية وأصولية سنية.

ويقول جواد عدرا «ان نظرة الى البعيد تؤكد ان النظام الطائفي في لبنان لا يمكن ان يستمر».

لكن هل تقبل كل الطوائف بمبدأ العلمانية؟ يأتي الرد من كثيرين: طائفة اللبناني تكون لبنانيته.

وحسب احصاء اجرته «الدولية للمعلومات» فان عدد اللبنانيين الآن، حسب القيود هو 4 ملايين و600 الف، وسيصبح العدد بعد 75 سنة، 6 ملايين و200 الف، اي لا نمو في لبنان، وستبرز فيه مشكلة المجتمع المسن، وهذه المشكلة تتجاوز كل الطوائف. ان 57% من سكان لبنان هم تحت الاربعين من العمر، وهذه تختلف عند الطوائف فمثلاً 69% من الشيعة تحت الاربعين من العمر، بينما 51% من الموارنة هم تحت الاربعين، و60% من الدروز تحت الاربعين. ويقول عدرا «ان سياسة وليد جنبلاط الديموغرافية ممتازة، واذا استمر النمو لدى الدروز بهذه النسبة يصبح كل الشوف للدروز».

ان الحديث عن تقسيم لبنان، يعود الى قرون سابقة. فعام 1860 وضعت خرائط تتعلق بتقسيم لبنان وجرى الحديث عن نقل السكان، من اجل اقامة ولايات من نوع معين، وفشل التقسيم وصار هناك لبنان الكبير. ثم في الحرب الاهلية الاخيرة (1975) جرى الحديث عن التقسيم وجعل جبل لبنان مع بيروت مقاطعة بحد ذاتها، وجبل لبنان الجنوبي مع البقاع الغربي مقاطعة تضم الدروز والمسيحيين، ولبنان الشمالي مع الهرمل يكون مقاطعة سنية، ولبنان الجنوبي يكون للشيعة. وفشل ذلك المشروع. وكما يقول عدرا «يمكن الآن طرح التقسيم من جديد، لكن التقسيم يقتضي نقل سكان من طوائف معينة الى امكنة اخرى. ثم لو تم التقسيم، فانه يستمر لعشرين سنة ثم يتفجر. والآن حتى يتحقق لا بد من تفجير الاوضاع واللجوء الى العنف اذ لا يمكن ان يفضي السلام الى التقسيم».

إن أي نوع من التقسيم او اقامة الكانتونات في لبنان يتطلب تطهيراً عرقياً وقمعاً فكرياً وديكتاتورياً، لأن انتخابات المتن الشمالي الاخيرة، اثبتت ان المسيحيين تصرفوا كمواطنين. «حزب الله» يتهم وليد جنبلاط وسمير جعجع بأنهما يريدان التقسيم وتوطين الفلسطينيين، ولبنانيون كثر يتهمون «حزب الله»، بأنه باسم المقاومة يقيم دولته من الجنوب الى البقاع مع اسلحتها وعتادها ودعم خارجي، وكأن كل الاطراف «المتهمة» تتجه نحو شيء لا بد منه وهي تبحث عن مخرج لتنفيذه.

يقول جواد عدرا «ان لبنان وُجد في الاساس كوطن للمسيحيين وللموارنة بشكل خاص، وافشله التوزيع الديموغرافي. ولا يمكن ان يكرر المسيحيون الخطأ بوطن اصغر فيبرز الوطن السني والوطن الشيعي. ثم ان المسيحيين لا يتصرفون كبيئة متجانسة في خياراتها السياسية، بل لديها خيارات مختلفة. وبالتالي من يضمن ان يكون الكانتون المسيحي موحداً سياسياً، ثم كيف سيكون الكانتون السني، هل سيكون سلفياً ام عصرياً وماذا سيفعل العصريون بالسلفيين؟ وماذا سيحصل في الكانتون الشيعي بين من يرغب بولاية الفقيه ومن لا يرغب بها، اذ ان هناك الكثيرين من الشيعة لا يريدون ولاية الفقيه وعلى رأسهم الشيخ محمد حسين فضل الله». هذه السيناريوهات لا تلغي ان هناك ازمة كبيرة في لبنان، لا احد يعرف كيفية الخروج منها. لأن «الهداية» لن تنزل على عقول السياسيين، فيبدأون بالتصرف كرجال دولة. اللبنانيون خائفون من احتمال قيام حكومتين، لأن العالم سيعترف بواحدة، ويفرض مقاطعة الاخرى، وقد يصبح لبنان مثل غزة والضفة الغربية، ومن ستكون قرعتهم غزة اللبنانية لا بد ان يلجأوا الى السلاح. اللبنانيون باغلبيتهم يرجّحون حلاً يُفرض من الخارج. واذا واصل الخارج (أي اميركا وايران وسوريا) صراعهم، سيستمر الصراع في لبنان، لكن، اذا توصل الخارج الى اتفاق، اتفق اللبنانيون. هناك حاجة لتغيير دولي او اقليمي جذري، او ان يتعرض طرف منها لانهيار كامل. لكن، لو كان «الزعماء» اللبنانيون اليوم بمستوى رجال دولة لما تمكن الخارج من عمل اي شيء. يتمنى جواد عدرا، لو ان في لبنان مثل الجنرال فرانكو الذي هيأ الملك خوان كارلوس ورباه ليحكم، فنعمت إسبانيا بالديموقراطية.

المؤلم ان «الزعماء» اللبنانيين عجزوا عن اقامة دولة، ونجحوا في تحطيم الدولة. ويمكن ان يعطوا دروساً في: كيف لا نبني دولة.

ويسأل اللبنانيون: «من سيكون الرئيس المقبل»؟