وزراء الغلو

TT

غابت مع غياب إدريس البصري أسرار كبرى ومرحلة من تاريخ المغرب كان الأمن فيها هو الأولوية والقلق السياسي هو العنوان.

وإذ انتقل المغرب مع محمد السادس من ضرورات الأمن إلى لزوميات التنمية، بدا غياب إدريس البصري مثل ختام فصل قديم في ذاكرة بعيدة. ولكن حتى مجيء محمد السادس وإقالة «الرجل القوي» كان البصري رمزا من رموز القسوة التي مارسها حرس الحسن الثاني وأعداؤه سواء. وكانت محنة محمد أوفقير تجربة مريرة في تاريخ «المخزن». فقد انقلب الحارس على ولي الأمر محاولا عزله وقتله، لكن السيف سبق العذل، ثم جاء خلفه الدليمي وخرج هو أيضا على الولاء ومات في ظرف غامض. وإثباتا للطاعة أراد إدريس البصري أن يكون «ملكيا أكثر من الملك».

لكن مشكلة الرجل المكلف دائما أن الشعور بالسلطة يمنحه الشعور الخاطئ بالديمومة. ويأتي يوم يخيل إليه أن لا غنى عنه. وهذا مرض سياسي يعرف بـ «مرض الرجل الثاني» الذي لا يدرك أنه مهما قوي أو استقوى فإن سره ليس فيه، بل في الرجل الأول. ولا يعرف «الرجل الثاني» أن القاعدة في منصبه هي الولاء وليس الطموح. وكان البصري القادم من الشرطة يقاتل من أجل طموحه. ولما وجد نفسه معزولا ووحيدا تذكر بأسى يوم كانت الناس تعرف بمجيئه من وقع حذائه على الأرض. وأصبح وحيدا ينزل إلى إحدى الساحات المجاورة في الدار البيضاء يشتري الصحف بنفسه ويناقش مع البائع في أخبار وأحوال البلد. وقد سألت البائع مرة عن الصحف التي يقرأها السي إدريس، فضحك ساخرا وقال «كلها. هؤلاء الناس يقرأون كل شيء».

كان أول قرار اتخذه محمد السادس بعد التنصيب، إقالة إدريس البصري. وكانت الإقالة عنوانا من عناوين الولاية والمرحلة.

لقد انتهت مرحلة صعبة ومضطربة شهد المغرب خلالها تلك الأحداث التي اهتزت لها مراكز السياسة في العالم: قضية المهدي بن بركة وانقلاب الصخيرات ومصرع أوفقير ثم مصرع الدليمي مدير الأمن العام. وبرغم قضايا المتطرفين لم يعد إلى الظهور «وزير أمني» في الرباط. وبرغم بعض الملاحقات الصحافية لم يعد إدريس البصري إلى وزارة الإعلام التي كان يعاملها كهواية مثل «الغولف» إلى جانب وزارة الداخلية.

وأراد البصري أن يمارس لعبة الطموح والتحدي حتى بعد العزل، لكنه استسلم لما يستسلم إليه الرجال الذين يغالون في الولاء والقسوة ثم يرون أنفسهم عزلا. استسلم إلى المنفى الذاتي.