إحذر من المثقف

TT

لعل بعض القراء يتذكرون هجماتي على المثقفين وشكوكي بهم وتحميلهم المسؤولية عن معظم ما وقعت به الشعوب العربية من المطبات والمقالب والمصائب. في الأيام التي جرت فيها مؤخرا ندوة اصيلة عن المثقفين العرب والسلفية، التقيت بأحد اصدقائي في لندن ممن قضوا حياتهم في العمل التجاري وتجاوز الآن الثمانين من عمره وتقاعد عن العمل. استعرضنا شيئا من حياته في ميادين الاعمال والتجارة. راح يتذكر بعض النكبات والخسائر التي واجهته في هذا الميدان. قال ان جل ما عاناه من خيانات امانة وتزويرات واحتيالات اوقعه بها التجار المثقفون، او المثقفون التجار، وكل رجال الاعمال الذين يتشدقون بالوطنية والقومية وخدمة الشعب ومحاربة الاستعمار والصهيونية. جرتني تصريحاته الى مناقشة هذه الظاهرة.

بالرغم من كل ما تتضمنه التجارة من وثائق ومستمسكات وعقود وشهود، فإنها في آخر المطاف تتوقف على الامانة والثقة المتبادلة وحسن النية وصدق الكلمة. قال صاحبي ان بسطاء الناس من التجار المحترفين الذين ورثوا هذا العمل ابا عن جد وعاشوا في إطار تقاليد المجتمع والسوق ومخافة الله التزموا بهذه الأركان. لم ينكروا عليه حقا ولا اكلوا عليه مالا. بيد ان شريحة من المثقفين، من الوطنجية والاسلامجية والقومجية، اخذوا يدخلون في السنوات الأخيرة ميادين هذه الأعمال. استغل بعضهم نفوذهم واقلامهم واحزابهم في الحصول على المقاولات والاجازات والاعمال. وفي تعامل صديقي التاجر معهم اكلوا عليه ماله وانكروا حقوقه وتجاوزوا التزاماتهم تجاهه.

تأملنا في ذلك. ما سر هذه الظاهرة؟ لماذا يكون المثقف عديم الذمة؟ الظاهر اولا انه يعطي نفسه كمثقف وخريج جامعة وينظم شعر ويكتب في الصحف موقعا فوق مواقع الآخرين، وفوق القيم الاخلاقية التقليدية. يعتبر هذا الموقع كافيا لتجاوز ما يلتزم به بسطاء الناس. فضلا عن ذلك، تعطيه ثقافته ومواهبه وذكاؤه القدرة على غش الآخرين ومخادعتهم والالتفاف على حقوقهم. واخيرا يستغل هيبته وشخصيته في الميادين العامة في تضليل البسطاء الذين يتوقعون منه الاخلاص وصدق الكلمة واحترام مركزه. يأتمنونه على اموالهم وحقوقهم ، بل وحتى على شرف نسائهم ثم يعضون اصابعهم ندما على ما فعلوا.

لم يتلق الجمهور العربي من النكبات والقتولات والسرقات وعمليات الارهاب وما تحمله من مصائب الثورات والانقلابات والحروب الداخلية والاهلية كما تلقاه من المثقفين تحت شتى الاسماء والشعارات.

لا ادري إن كان لكلمة «مثقفون» مرادف في اللغات الاخرى. ولكنها غير موجودة قط في الانجليزية. وعندما زار احد الحكام العرب بريطانيا في عهد مارغريت ثاتشر سألته رئيسة الوزراء عمن يريد ان يقابله خلال زيارته. قال لها اريد مقابلة بعض المثقفين الانجليز. هزت رأسها في عجب واجابته: «ولكن لا يوجد عندنا من تقول». لا ادري، ربما هذا هو السر في صلاح امورهم وتمزق امورنا. ماكو عندهم مثقفون.