يستعينون بـ«يديعوت أحرونوت» ليخوِّنوا عباس و«السلطة الوطنية»!

TT

لا أسهل من أن ينتدب أحدهم نفسه ويرتقي صخرة عالية، ويأخذ بتوزيع فتاوى الوطنية والتخوين، وإصدار شهادات ما يجوز ولا يجوز، وما هو المحرم والمحلل سياسياً، وذلك على غرار ما يظهر بين فينة وأخرى على هذه الصفحة وكل هذا مع أن من امتهن هذه المهنة غير معروف عنه أنه التقط حجراً صغيراً ذات يوم ورماه في اتجاه «العدو الصهيوني» و«الامبريالية الأميركية»!

إنه من حق أي كان أن يقول رأيه في مجريات الحالة الفلسطينية كما يشاء، فهذه القضية قضية قومية تهم العرب كلهم وهي ليست للفلسطينيين دون غيرهم، ثم وأن الحديث فيها وعنها لا يعتبر تدخلاً في الشأن الفلسطيني الداخلي.. أما أن يصل الانحياز الأعمى بأحدهم إلى حد مواصلة اتهام محمود عباس (أبو مازن) بوطنيته، فإن هذا عيبٌ وتحامل مقصود، وهو أيضاً تشويه ربما أن دوافعه وأسبابه تتكئ على مصالح شخصية لا علاقة لها بالحرص على فلسطين وقضيتها.

إنه كلام غوغائي عجيب جرى ترديده أكثر من مرة منذ أن نفذت «حماس» انقلابها «الجهادي»!! بتلك الصورة المرعبة المعيبة فالتساؤل باستنكارٍ عن كيف أن محمود عباس (أبو مازن) يحاور إسرائيل، ويسعى لعقد صلح معها بينما يرفض الحوار مع «حماس» هو ابتزاز سياسي موجه إلى عقول الناس البسطاء غير المتابعين لتطورات الحركة الوطنية الفلسطينية وغير المطلعين على حقيقة ما جرى في غزة حتى وصلت الأمور إلى الانقلاب الأخير الذي بات يتكشف على حقيقته في ضوء القمع اليومي الذي تمارسه «القوة التنفيذية» ضد المواطن الغزي العادي وضد باقي فصائل المقاومة التي كانت بدأت الثورة والمقاومة، عندما كان إسماعيل هنية لا يزال طالب مدرسة ابتدائية يملأ ساحات مدرسته صراخاً وبكاءً إذا انتزع منه أحد زملائه قطعة حلوى صغيرة.

إنه تجن على الحقائق أن تُتَّهم السلطة الوطنية، التي يدها في النار، بكل هذه التهم من قبل الذين نصبوا أنفسهم قضاة على حركة التاريخ وصرف شهادات وطنية وإطلاق تهم الخيانة على قادة فلسطينيين، بدأوا الثورة والمقاومة والجهاد عندما كانت حركة الإخوان المسلمين التي كان ينتمي إليها هؤلاء تنشغل بالانحياز إلى بريطانيا والولايات المتحدة ضد المد اليساري والقومية العربية والشيوعية العالمية، ولها مكتب دائم في الخارجية البريطانية، والأسماء هنا معروفة والوثائق موجودة.

إن القول: كيف يسمح محمود عباس (أبو مازن) لنفسه أن يرفض الحوار مع «حماس» وهو يحاور الإسرائيليين ويسعى لعقد صلح معهم هو كاستغراب واستنكار الحديث عن خطر إيراني يتهدد المنطقة، بينما هناك احتلال أميركي للعراق، وبينما هناك قواعد أميركية في هذه المنطقة، وكأن المطلوب أن يغمض العرب عيونهم، وأن يقبلوا بتدخل إيران السافر في العراق وفي فلسطين وفي لبنان، وفي اليمن وفي دول عربية أخرى ما دام أن للأميركيين تواجدا عسكريا في الخليج وفي هذه المنطقة.. وهذا لا يشبهه إلا الدفاع عن أسامة بن لادن وجرائمه و«قاعدته» بحجة أنه يعادي «الإستكبار العالمي» ويتصدى له ويقاتله.

حقيقة أنه منطق عجيب غريب وهو يعني أنه من حق إيران أن تحتل الجزر الإماراتية الثلاث، وأن تتمدد تحت إلحاح نزعتها الفارسية، التي لم تعد خافية، في اتجاه دول الخليج وأن تحتل العراق احتلالاً مباشراً وغير مباشر، وأن تغير المعادلة اللبنانية، وتقوم بما قامت به بتبني انقلاب «حماس» ضد السلطة الوطنية ما دام أن هناك تواجداً أميركياً في المنطقة وما دام أنها تقول إنها ضد هذا التواجد.

لا جدال على الإطلاق في أن الاحتلال الأميركي مرفوض وتجب مقاومته، ولا شك في أن وجود قواعد أميركية في المنطقة غير مقبول تحت أي مبرر، لكن أن يكون هذا مبرراً للسكوت عن التدخل الإيراني في العراق، وفي عدد من دول هذه المنطقة، فإن هذا ليس خطأً فقط بل هو خطيئة فالاحتلال الأميركي مهما طال أمده، فإن نهايته ستكون قريبة، وأنه سيبقى احتلالاً أجنبياً مرفوضاً أما الاحتلال الإيراني المتسلح بتوجهات امبراطورية فارسية والمقنع بعقيدة مذهبية مضمونها ثارات طائفية قديمة، فإنه في الحقيقة الأخطر وتجارب التاريخ تشهد على ذلك حيث احتل الصفويون بلاد الرافدين سنوات طويلة ذاق خلالها الذين قاوموهم الأمرين!!

إن هناك ابتزازاً لعقول الناس البسطاء فاكتشاف أن محمود عباس (أبو مازن) يسعى لتطوير «أوسلو» القديمة، وأنه ينخرط مع أيهودا أولمرت في مفاوضات سرية وعلنية لإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية هو كادعاء اختراع البارود مرة أخرى، فالرئيس الفلسطيني لا يخفي هذه الاتصالات السرية والعلنية، وهو لا يخفي أنه يسعى لحل نهائي لهذه القضية يستند إلى مبادرة السلام العربية التي أجمع عليها العرب كلهم بدون استثناء أي دولة من دولهم وأساسه إقامة دولة مستقلة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل ذات حدود متصلة وقابلة للاستمرار والحياة، كما أكد على هذا الرئيس الأميركي جورج بوش أكثر من مرة.

ثم وإن الذين من قبيل اتهام محمود عباس (أبو مازن) بوطنيته يرفعون الشعار المضلل القائل: «الحوار مع إسرائيل والحرب ضد حماس» ينسون أو يتناسون أن «حماس» هذه وافقت وتوافق على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض التي أُحتلت في عام 1967، وأنها لم تعد تتحدث عن التحرير من البحر إلى النهر، وأنها كانت فوضت الرئيس الفلسطيني، باعتباره رئيساً للسلطة الوطنية ورئيساً لمنظمة التحرير، بالتفاوض مع أولمرت ومع غير أولمرت من أجل حل القضية الفلسطينية حلاً نهائياً إن ليس على أساس القرارات الدولية، فعلى أساس وثيقة مستشار إسماعيل هنية السياسي الدكتور أحمد يوسف.

والغريب أن هؤلاء الذين انتدبوا أنفسهم كقضاة يصدرون فتاوى التخوين ضد قادة الشعب الفلسطيني، الذين لم يلحق بهم خالد مشعل ومحمود الزهار، إلا بعد نحو ربع قرن، لا يثقون إلا بمعلومات الصحف الإسرائيلية، ولذلك فإنهم من أجل إثبات تهم «الخيانة» التي يوجهونها إلى «أبو مازن» لا يجدون ما يستنجدون به إلا صحيفة «يديعوت أحرونوت» وصحيفة «هآرتس» وتقارير شمعون شيفر، وتصريحات أولمرت، هذا مع أن المفترض أنهم روَّاد مقاومة التطبيع ومع أن المفترض أن أخطر أنواع التطبيع هو الاستشهاد بالراويات الإسرائيلية للأحداث، سواء كانت هذه الأحداث جديدة أم تاريخية وقديمة.

ليس هناك أية أسرار كهذه التي مدَّ أنصار «حماس» وأعوانها، الذين يراقبون الأحداث عن بعد، أيديهم حتى إلى «يديعوت أحرونوت» و«هآرتس» لإثباتها، فالأمور واضحة وضوح الشمس وهناك لقاءات فلسطينية ـ إسرائيلية سرية وعلنية من أجل إيجاد إطار سياسي لمؤتمر الخريف المقبل الذي دعا إليه جورج بوش، والذي إن هو انعقد، فمهمته ستكون التأسيس لحل نهائي للقضية الفلسطينية وفقاً للقرارات الدولية ومبادرة السلام العربية.. وأيضاً وفقاً لتصريحات الرئيس الأميركي المتعلقة بهذا الأمر.

لا توجد أية أسرار على الإطلاق ثم وإذا كانت «أوسلو» كسباً إسرائيلياً محققاً فلماذا خاضت حركة «حماس» الانتخابات التشريعية التي فازت بها على أساسها. ولماذا شكل إسماعيل هنية حكومتيه المتلاحقتين وفقاً لها، ثم ولماذا تتمسك «دوقيَّة» غزة الحماسية كل هذا التمسك بـ«الدستور» الأوسلوي ما دام أن كل ما يقوم على الباطل يعتبر باطلاً، وما دام أن تحريم أكل الميتة يشمل أحشاءها وينطبق على كل أجزائها..؟!

لا يجوز إلقاء الكلام على عواهنه، والقول إن أولمرت يحاول استثمار ضعف «أبو مازن» لانتزاع مزيد من التنازلات منه، وهنا فإن ما لا يستطيع إنكاره الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على القضية الفلسطينية، والذين يدعون أنهم أكثر حرصاً عليها من ياسر عرفات ومحمود عباس، هو أن ضعف الرئيس الفلسطيني، الذي يتحدثون عنه، سببه الانقلاب العسكري الذي نفذه جماعتهم ضد الشرعية الفلسطينية ولحساب إيران والمشروع الإيراني وخدمة لتحالف «فسطاط الممانعة» الذي فعل في لبنان والعراق ما فعله.

مَنْ الذي أضعف أبو مازن وهو ذاهب إلى التفاوض مع أولمرت أليست هي «حماس» التي قامت بانقلاب غزة وفعلت ما فعلته..؟

ثم أليس هو إثم ما بعده إثم، أن يلجأ الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة في محكمة التاريخ إلى «يديعوت أحرونوت» و«هآرتس» وشمعون شيفر وناحوم برنباع، لإعطاء مصداقية لاتهام محمود عباس بوطنيته..؟!