حتى موائد أصيلة تنعم بالسكينة

TT

ما أن وطأت قدمي أرض «قصر الثقافة» التابع لمؤسسة منتدى أصيلة للعمل به، حتى وطأ قلمي من جديد، وبخصوبة أكبر، أرض الكتابة، بعد أن بدأت انتحب انطفائي ولمدة طويلة، لم يستطع قلمي أن يقاوم سحر «قصر الريسوني»، ولا أن يحذو حذو أصيلة، ويخلد للصمت والسكينة، ولا أن يقاوم سحر ابتسامات أطفال يتباهون أمام جدارياتهم بصفاء الألوان، تلك التي تختزن براءتهم وخجلهم وصدقهم، ولا أن يقاوم نغمات ناي عجوز أمام مدرسة «سيدي محمد مرزوق»، ولا جاذبية هاته المدينة التي أوقعتني بغوايتها في حبالها، ونسجت معها عشقا سريا لم أبح به لأحد خوفا من انتهاك قداسته، لم يتمكن قلمي من مقاومة طلعة هامات لها اقتدارها الإبداعي الذي لا يماري فيه أحد، هامات أثارت غيرتي، وأججت في أغواري جذوة الكتابة؛ هامات كانت على موعد سنوي مع أصيلة، في مهرجانها الثقافي السنوي، تحل بها كي تثقب غشاء أوزون هذا الفضاء الهلامي الأخرس، خرس أتقنته مدينة «أصيلة» المغربية، كي تصيخ السمع لهدير الموج، ولوشوشات العشاق، خرس لاذت به «أصيلة» كي تثبت للعالم أنها وإن عانقت الصمت فبإمكانها أن تجيد لغة الفن والجمال والإبداع، وبإمكانها أن توزع على كل زوارها وضيوفها وعشاقها، وبكرم حاتمي، بحرا من الألون والكلمات والأفكار والإيقاعات.

منذ 1978 ورئيس مؤسسة منتدى أصيلة الوزير محمد بن عيسى، الإنسان والفنان، وصديقه الفنان التشكيلي محمد المليحي، يصران على نفث الحياة في أرض يباب، وعلى مقاومة ما يقتل الروح، وعلى تحرير أرواحنا من غلواء المبتذل والمستهلك واليومي، كي يثبتوا للجميع، وبعيدا عن أي شوفينية أو حسابات ضيقة، أن أصيلة، في ظل ما يعيشه العالم من فواجع وصراعات ونزاعات، لا مكان فيها لليأس والموت، بل بإمكاننا أن نبني في بحرها نفقا سريا يفضي إلى الحياة. فإذا كان الشعب الفلسطيني، على حد تعبير الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي: «لا يشتري اليأس لأنه من الكماليات»، فالزيلاشيون، أي سكان أصيلة: «لا يشترونه كذلك، لأنهم بكل بساطة يتفيأون ظلال الفن والجمال، ومن يحظى بهذا الوضع لا يمكن إلا أن «يربي الأمل»، على حد تعبير محمود درويش.

يتجدد موسم أصيلة الثقافي كل سنة، ويستعيض في طيرانه بالأجنحة الفولاذية عوض الأجنحة الإيكارية (نسبة إلى إيكاروس) الذي تذوب أجنحته الشمعية عند أول لفحة شمس، لهذا كتب لهذا الموسم الاستمرار، على غرار مهرجانات ثقافية أخرى التي ذابت أجنحتها عند أول محاولة للطيران، استمر المهرجان في الطيران والتجدد، لكونه يراهن على أسئلة جديدة، يقاوم من أجل البقاء مقاومة شرسة، من أجل جعل الثقافة رافدا مهما من روافد التنمية، ليعلو صوت الحوار والتلاقح والتسامح على لغات العنف والإرهاب والتطرف، وعلى أنين الأطفال، ونحيب الثكالى، وصواريخ الأباتشي، وجنازير الدبابات.. يعلو صوت المهرجان المهادن، في الوقت الذي استعادت فيه نظرية «صدام الحضارات» لصاموئيل هنتنغتون عافيتها، وفي الوقت الذي أقدمت فيه أوروبا على وضع حاجز بينها وبين بؤس جنوب استنزفت خيراته. وفي الوقت الذي ظهر للعالم «عدو» جديد اسمه «الإسلام»، يشرق المهرجان كل صيف في أصيلة، ولا يمل من معاودة الشروق، بكل بساطة لأنه يشرق كل سنة بألق وتوهج، وبنبض الآني، بعيدا عن أية رتابة وسطحية وأسئلة ضيقة واستهلاكية ودعائية، وخارج أية محدودية وضيق أفق وارتجالية ونخبوية، مهرجان تضخ فيه كل سنة دماء جديدة ليعكس بشكل جلي المشهد الثقافي والسياسي والفني العام في وطننا العربي، وكذا مستجداته، وسعيها الحثيث لتطوير خطاب الحداثة والديمقراطية والانفتاح الثقافي وشرعنة آليات جديدة لصناعة الثقافة في وطننا العربي، بعيدا عن أي جعجعة أو تهليل أو تطبيل، مهرجان تباينت ألوانه من فن وموسيقى وتشكيل وفكر وسينما ليمارس نوعا من «الكاترسيس» أي التطهير، لأعيننا التي روعتها مشاهد الدم اليومية، وأرواحنا التي جرفتها دوامة العالم الاستهلاكي اليومي، وفكرنا الذي لوثته تلك الأفكار الظلامية المتحجرة المناغية للعصور الغابرة. 

وحتى بعد أن بعدت عن أصيلة، بقي هناك خيط شفيف روحاني يربطني بها، خيط يزداد متانة وقوة يوما بعد يوم، يشدني كما بدأ يشد ابنتي «هبة» التي تشارك في ورش التشكيل اليوم بكل عشق وحب، وربما الموت وحده يمكن أن يحول دون ارتباطي بهاته المدينة، كما حال دون حلول إميل حبيبي وبلند الحيدري وغسان عبد الخالق وألبرتو مورافيا ومحمد عزيز الحبابي وتشيكايا أوتامسي وليوبولد سيدار سنغور ومحمد شكري، وغيرهم ممن واظبوا على التبرك بأرض أصيلة الطيبة المنغلقة في صدفتها طيلة فصل الشتاء والمتلألئة صيفا، لينعموا بسلامها وهدوئها، سلام تنعم به حتى موائد سكان أصيلة الزاخرة بأشهى أنواع السمك، بعيدا عن جنون البقر، وأنفلونزا الطيور، وجرثومة الأغنام الخبيثة، أسماء عشقت هذه المدينة حتى النخاع، رحلت وإن تكفل الزمن بتضميد جرح غيابها في أنفسنا فلن يلتئم جرح غيابها في جسد «أصيلة»؛ لكن ثمة من السياسيين والمفكرين والكتاب والأدباء والفنانين من أصدقاء الموسم، ممن يعاودون الحضور كل سنة، بلا كلل أو ملل، ومن كل بقاع العالم، وقد يصعب في هذا المقام حصر عددهم وقيمة أسمائهم، وآخرون حضروا هذه السنة أيضا، كأنخيل موراتينوس وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإسباني، وكوفي عنان الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة، وعبدو ضيوف الرئيس السابق لجمهورية السنغال وغيرهم، هؤلاء شاركوا في مهرجان أصيلة الثقافي التاسع والعشرين، لينثروا على حواشيه بعضا من أفكارهم وتنظيراتهم وطروحاتهم، بمناسبة تنظيم إحدى ندوات هذه الدورة، ويتعلق الأمر بندوة «أفريقيا وأوروبا تحديات الواحد والتزامات الآخر»، وغيرها من الفعاليات العالمية الأخرى التي أغنت بمداخلاتها أسئلة المؤتمرات والندوات الأخرى التي نظمها المنتدى هذه السنة، ومن أهمها المؤتمر الأول حول «الموسيقى في عالم الإسلام»، بحضور متخصصين في عالم الموسيقى، أثبتوا أن الإسلام يمكن أن يعزف مقامات وإيقاعات مختلفة غير إيقاع التفجير والترهيب والتكفير، وندوة «النخبة المثقفة والفكر السلفي في الوطن العربي»، بما قدم فيها من أوراق، وبما تطارحته من أسئلة تصب في قلب راهننا العربي.

اختتم، إذن، مهرجان أصيلة التاسع والعشرون، وفي الصيف القادم سيكمل المهرجان سنته الثلاثين، سن يقال إنه يكتمل فيه نضج المرأة وجمالها وبهاؤها، وحتما سيكتمل فيه جمال المهرجان وألقه وجاذبيته.

* كاتبة من المغرب