المنطق المفقود.. في العراق وفلسطين

TT

من المستحيل، عندما ننظر الى الساحة العراقية وما يحيط بها ويرتبط بها أن نجد أن الاحداث تدخل في إطار بناء منطقي يمكن أن تترتب فيه الأمور بحيث نجد مقدمات تؤدي الى نتائج يمكن أن نقول عنها شيئاً لا يخرج عن دائرة المعقول والمقبول.

ولنضرب أمثلة على ما نقول:

1 ـ الولايات المتحدة التي دعمت وصول المالكي الى رئاسة وزارة لا تستجيب الى متطلبات وحدة وطنية، أخذ موقفها منه يتذبذب، فهي تارة تدافع عنه، ثم تتهمه بأنه عاجز أو غير راغب في الالتزام بالإصلاحات المطلوبة، ويهاجمه الرئيس بوش، ثم ينفي أنه يريد إبعاده.

2 ـ وفي نفس الوقت فإن الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي لم يهدأ منذ انتخابه، وكأنه يتسابق مع نفسه في ماراثون، يريد أن يثبت فيه أنه مختلف تماما عن سابقيه، وأنه يفضلهم في كل شيء.. الرئيس ساركوزي يطالب باستبعاد المالكي ثم يعود في اليوم التالي فيعتذر عن ذلك.

3 ـ وفي نفس الوقت فإن الانقسام الطائفي يتفاقم والحرب الأهلية تزداد اشتعالاً، ويزداد عدد الضحايا.. والديمقراطية التي ادعى الامريكيون أنهم أقاموها وأنها ستكون محل حسد بعض الدول وقلق البعض الآخر، تتساقط إلى أشلاء. وتتصاعد المطالبات بانسحاب القوات الامريكية، بينما تبدأ القوات البريطانية في تخفيف وجودها. وينتظر الجميع التقرير الذي سيقدمه في سبتمبر كل من السفير الأمريكي في بغداد ريان كروكر، وقائد القوات بترايوس، والذي يتوقع أن يكون محاولة لكسب الوقت وإمساك العصا من المنتصف بالادعاء كذباً أن تعزيز القوات أفاد في تحسين الأوضاع ثم يخلص من ذلك تدليساً بأنه يمكن تخفيض تلك القوات.

4 ـ وفي إطار هذا الموقف الملتبس، فإن جنوداً بريطانيين ماتوا خطأ بنيران القوات الأمريكية فيما يسمى «نيراناً صديقة» وهو تعبير اضافي عن الفوضى السائدة عسكرياً وسياسياً.

5 ـ وفي نفس الوقت فإن هناك شعوراً لدى الكثيرين بأن إيران هي التي تستفيد من الأخطاء الأمريكية، وأياً كانت نواياها أو حدود طموحاتها، فليس من شك أنه يهمها أن يزداد التورط الأمريكي الذي يقوم على العناد في رفض النظر الى الواقع، فيما وصفه مفكر استراتيجي فرنسي بأنه حالة رفض النظر الى الحقيقة نابعة من تقييم مبالغ فيه للامكانيات الذاتية، وتقليل غير واقعي لإمكانيات الخصم، الى درجة أن ذلك المفكر أشار في هذا الصدد الى تشبيه مفاده أن كلاً من نابليون وهتلر، حين هاجما روسيا، أظهرا ثقة مبالغا فيها في القدرة العسكرية أدت الى كارثة، كما أن صدام حسين ذاته بالغ في «لعب أوراقه» متصوراً أن الولايات المتحدة لن تجرؤ على مهاجمته.

6 ـ في هذه الاجواء فإن تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران قد ينذر بوقوع صدام يبدو أن البعض يدفعون في اتجاهه. وإذا كنت أعتقد أن الولايات المتحدة قد لا تريد الانزلاق الى عمليات عسكرية جديدة قد تكون لها عواقب وخيمة، وأن إيران أيضاً يهمها أن تتجنب مثل هذا الصدام وأن يظل الصراع محكوماً، فإن الأمور قد تفلت تحت ضغوط متنوعة قد تقترن بحسابات خاطئة.

وما زلت في هذه الاجواء أكرر الدعوة الى تجديد بذل جهود عربية من أجل العمل على خلق حد أدنى من الوفاق الوطني العراقي، يخلق الظروف للإسراع بانسحاب القوات الأجنبية، وبدء حوار جاد مع إيران يحدد الخطوط الحمراء العربية وليس الأمريكية، ويضع أساساً لإعادة الاستقرار في المنطقة. وأنا أعرف أن ذلك ليس بالأمر السهل، ولكنه يستحق المحاولة وتكرار المحاولة لأنه يجنب الجميع مخاطر يصعب التكهن بمداها وإن كان من غير الممكن تجنب انعكاساتها اذا وقعت. وليس من شك في أن الاستقرار في المنطقة يتطلب أيضاً التوصل الى تسوية جدية للقضية الفلسطينية عن طريق جهود حقيقية وبعيداً عما نراه من نشاز ونشوز ومن محاولات الدس والوقيعة، والتشبث بأوهام ثبت زيفها وسراب «الاجتماع أو المؤتمر الدولي» الذي لا أرى فيه جهداً حقيقياً للتسوية بل محاولة للتمويه على سياسات هي تكرار لممارسات قديمة كانت تدفع الأمور في اتجاه طرق مسدودة تصطدم في نهايتها بأسوار عالية ترتد بعدها الى مزيد من التوتر والتدهور. ولست أرى حتى اليوم ـ رغم زيارة المسؤولين الغربيين والدوليين وآخرهم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق ـ أية محاولة جادة للتسوية. فالشعب الفلسطيني منقسم، وبالتالي في أضعف حالاته، وإسرائيل سادرة في غيها وفي سياسات السيطرة والعدوان والغطرسة من دون ان تجد من حليفها الأساسي، الذي يدعي الرغبة في إقامة سلام حقيقي، إلا مساندة معنوية ومادية تبرر الاخطاء وتشجع بالتالي على المضي قدماً فيها.

وهنا أيضا لا أتصور أن الدول العربية ـ مهما كانت اتجاهاتها وميولها ـ تستطيع أن تتحمل هذا الوضع من دون أن تسعى جدياً لتسوية النزاع الفلسطيني ـ الفلسطيني الذي يجعل الجبهة العربية في موقف ضعْف، اذا انعقد الاجتماع أو المؤتمر. وأنا اعرف الصعوبات في هذا الصدد سواء من الناحية العربية او الفلسطينية، ولكني اعرف ايضاً أن استمرار الأوضاع الحالية للعلاقات الفلسطينية ـ الفلسطينية او العربية ـ العربية إنذارٌ بكارثة لا أتصور أن أحداً مستعد لتحمل مسؤوليتها. ولسنا هنا نتحدث عن أحلام أو آمال ولكن عن واقع إذا استمر ترديه فإن أحداً لن يسلم منه، وبالتالي فإن التكاتف من اجل وضع حد له هو مصلحة مشتركة ـ مهما كانت الاختلافات ـ بل هو فرض على الجميع. ولست أشك في أنّ بين الفلسطينيين ـ كما بين العراقيين ـ من لا تعميهم مصالح آنية مؤقتة، وأوهام نابعة من الذات أو من اغراءات الغواية الخارجية، فيدركون أن الطريق التي يسلكونها سوف لن تؤدي إلا الى مزيد من الخراب يصيب القضايا والآمال التي يجب أن تكون لها الصدارة لأنها تتعلق بالمصير وليس بحسابات خائبة لا تعي دروس التاريخ القريب والبعيد.

وليس يعني هذا أن نرفض اي جهود، او وعود بجهود، يتبرع بها البعض ـ سواء لأغراض في نفس يعقوب او عن رغبة قد تكون حقيقية للرجوع عن نظريات الفوضى الخلاقة أو المحكومة ـ ولكنه يعني أن نتعامل مع تلك الجهود والوعود بجدية ووعي حتى يمكن أن ندفع بها اذا أمكن في اتجاه مصالحنا ونتجنب مزالقها، وهذا يقتضي ـ بالإضافة الى جهود مع العراقيين والفلسطينيين ـ جهداً عربياً مشتركاً ينظر الى الافق وليس الى الوراء، ويتجاوز حساسيات ويتجنب أن تنكأ جروح ما كان يصحُّ من الأصل أن تحدث، ويبتعد عن التناول التكتيكي للأمور وصولاً الى نظرية استراتيجية تعكس ان المصالح المشتركة هي أقوى من كل ما يفرق او يمكن ان يفرق.

وأتصور ان هذا ليس أضغاث أحلام بل هو ممكن، وأتصور أن هناك دولاً مؤهلة لذلك، ومن بينها بالطبع مصر، ولكنه على أية حال يجب أن يكون جهداً جماعياً يشارك فيه ـ كلٌ وفق قدراته ـ كل من يدركون ان أحداً لن ينجو وحده أو يغرق وحده، وإذا كان البعض لا يعجبه التشبيه بالسفينة الواحدة فإني لا أملك تشبيهاً غيره يعبر عن الواقع.