مغرب ما بعد البصري

TT

من غريب الاتفاق أن يرحل وزير داخلية المغرب السابق إدريس البصري في نفس الوقت الذي انطلقت فيه حملة الانتخابات البرلمانية المقررة يوم 7 سبتمبر القادم، وهو الرجل الذي ظل خمسا وعشرين سنة «صانع البرلمانات المغربية»، والذي تتهمه التشكيلات الحزبية غير المشاركة في الحكومة بتزييف الانتخابات ومصادرة إرادة المواطن بالترغيب والقمع.

رحل الرجل في باريس التي عاش فيها سنوات عمره الخمس الأخيرة، بعيدا عن الأضواء التي حاول التشبث بها في منفاه، وكأنه ليس رجل السلطة القوي الذي هيمن على مقاليد الأمر، خصوصا في الفترة الأخيرة من حكم الملك الراحل الحسن الثاني. لم يكن هناك ما يهيئ ابن حارس السجن في مدينة «اسطات» الصغيرة ليتبوأ هذه المكانة المرموقة في سلم السلطة، في فترة عاصفة من تاريخ المغرب، استطاع فيها ضابط الشرطة الشاب الاحتفاظ بأصعب حقيبة وزارية طيلة ربع قرن كامل.

والواقع أن الرجل نسيج فريد في تركيبة الحقل السياسي المغربي الذي كان شاهدا فاعلا فيه بقوة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فلا هو امتداد للجنرال اوفقير وزير الداخلية القوي الذي كثيرا ما يشبه به، من حيث الأسلوب والدور والحضور.

فعلى الرغم من عديد النقاط المشتركة بينهما، إلا أن الرجلين يختلفان في الواقع جوهريا. فأوفقير كما هو معروف بقية من الإرث الاستعماري، عمل طويلا في الأمن العسكري الفرنسي قبل أن يتمكن من التسلل بنجاح إلى الدولة الجديدة التي قامت على ائتلاف واسع بين «الملك الثائر» و«حركة المقاومة».

واستفاد أوفقير من التصدع الذي حصل في منتصف الستينات بين الملك واليسار، فأصبح الرجل القوي في النظام، ووجهه القمعي الشرس. وقد ساعده تكوينه المخابراتي العسكري وعلاقته مع الأجهزة الأمنية الغربية في نسج شبكة ولاء خطيرة خارج دائرة تحكم المؤسسة الملكية، فطمع في انتزاع الحكم بالتحايل والقوة. ولئن كان البصري تخرج في المدرسة الأمنية الأوفقيرية، إلا أنه تحدر من خلفية مغايرة، وابتدع مسلكا مختلفا، فالمثير في شخصية البصري هو حرصه على الجمع بين «رجل السلطة» ذي القبضة الأمنية القوية ـ كانت هذه العبارة موضوع أطروحته للدكتوراه في القانون بإحدى الجامعات الفرنسية ـ وصورة المثقف الجامعي المتخصص، الذي يحرص على انتزاع قدم في الحقل الأكاديمي والفكري، على الرغم من أنه لم ينجح في نيل اعتراف الوسط الثقافي المغربي الذي لم ير فيه سوى صورة ضابط الشرطة العنيف.

حافظ البصري خلال سنوات وزارته الطويلة على دروسه في كلية القانون بالدار البيضاء وكان يبدو كالمدرس المجد النشط. أصدر كتبا في العلوم السياسية والقانون وأشرف على ندوات بحثية متعددة.

ربط صلات واسعة بالصحفيين ورجال الإعلام، خصوصا في فترة جمعه بين وزارتي الداخلية والإعلام.

فالرجل الذي كان يحجم عن الظهور في وسائل الإعلام كان ماهرا في استخدام المعلومة والصورة أداة من أدوات السلطة. وعلى عكس أوفقير الذي كانت علاقته برجال السياسة معدومة، فإن البصري لم يكن يكتفي بالصدام مع خصومه، بل يسعى في الآن نفسه إلى مصارعتهم من داخل الحقل السياسي بتشكيل أقطاب سياسية، ينتزع بها الريادة في المجالس المنتخبة. وبالحفاظ على قنوات اتصال ناجحة بكافة أطياف الساحة المغربية. ولذلك على الرغم من صورته الممجوجة داخل أحزاب الكتلة الوطنية التي تزعمت ائتلاف حكومة التناوب الأول برئاسة اليوسفي، الا انه استطاع بسرعة التأقلم مع المعادلة الجديدة، بل أصبحت له بالفعل صداقات قوية مع بعض رموز اليسار التي لم تكن ترى فيه سوى شبح اوفقير المخيف.

وقد فسر البصري خلال سنوات منفاه التي أكثر فيها الحديث الى وسائل الإعلام المغربي والأجنبي، هذه الصورة المركبة بالإحالة الى تصوره للسلطة بالقول «ان رجل السلطة الناجح هو الذي يدرك انه مجرد أداة من أدوات الحكم، قابلة للتوجيه والتصريف في مسالك واتجاهات متضاربة متغيرة».

فلا معنى بالنسبة له للإرادة الحرة، ما دامت شؤون الدولة ليست من متعلقات وعيه الذي يجب ان يسلم مفاتيحه لولي الأمر. الذين يعرفون البصري جيدا يؤكدون انه أتقن أداء هذا الدور، وكان يقول ان مفاتيح وعيه قد سلمها للملك. بيد انه لم يكن في الواقع مجرد موظف في شؤون كلف بها، بل انتهى الى أن يكون الشريك في القرار في السنوات الأخيرة من عهد الحسن الثاني. ولقد تأجلت تجربة التناوب التوافقي سنوات ثلاثا بسبب اشتراط المعارضة السابقة إزاحة البصري من وزارة الداخلية، إدراكا أن الرجل يمثل رمزا لتركة الماضي الثقيل، ولذا كان خروج البصري من الحكومة بعد أربعة شهور من وصول محمد السادس الى سدة الحكم محطة أساسية من محطات التحول السياسي في المغرب.

لم يكن احد يتوقع أن يكون محو آثار البصري بهذه السلاسة والبساطة. فالرجل الذي كان ملء الآذان والأعين أنهى أيامه الأخيرة بمرارة وأسى في شقته الباريسية، بعيدا عن أضواء المغرب وجلبته السياسية. ولئن كان أكثر لفترة ما من المقابلات التلفزية والصحافة للتذكير بنفسه ومقارعة خصومه وتهديدهم بسلاح ذاكرته وملفاته، إلا انه اخلد في النهاية لهدوء المنفى وقسوة الغربة.

وبدا وكأن الطبقة السياسية المغربية اختارت لمحو آثاره تسوية تركة انتهاكات حقوق الإنسان بالمصارحة والمصالحة تأسيساً لعهد جديد، بعيدا عن أشباح الماضي.