أحزان السيدة هاء

TT

تذكرت اليوم سيدة كانت تسكن بالقرب من البيت الذي ولدت ونشأت فيه. سوف ارمز لها بحرف الهاء لأنه كان أول حرف من اسمها، وذلك حرصا على مشاعر من تبقى من اولادها وأقاربها. كانت السيدة جميلة بمقاييس عصرها وكانت ربة منزل من الطراز الاول وكم حاكت لي وأنا طفلة فساتين جميلة للأعياد مجاملة لأمي، جارتها وصديقتها.

في طفولتي لم ادرك كم كانت حزينة تلك السيدة رغم انني كنت اشارك ابنتها اللعب وأتبادل معها الالعاب والكتب. وحين شاءت ظروف الحياة ان اغادر الوطن طلبا للعلم عادت السيدة هاء لتحتل مكانا بارزا في مخيلتي. لأنها وبعد سفري بشهور قلائل فارقت الحياة وهي لم تتجاوز الاربعين الا بعام واحد، بكيتها كثيرا. وبعد وفاتها بأعوام وفي زيارة للوطن سمعت بأنها ماتت لأن قلبها انكسر.

فهمت بعد ان كبرت بأنها لم تكن سعيدة مع زوجها ولكنها تمسكت بالزواج لكي تربي ولديها، كانا محور حياتها واهتمامها، تبذل في سبيل توفير ما يحتاجان كل ذرة من طاقتها النفسية والاجتماعية وتتحايل على الظروف القاسية مع زوجها لكي يظل بيتها مستقرا. فقد كان الزوج فريسة لحب المقامرة ينفق كل ماله على الموائد الخضراء وظلت هي تصارع من اجل البقاء بمال قليل ورثته عن اهلها.

وحين كبر ولدها وظنت ان ايام الشقاء ربما انتهت وان الابن الذي افنت شبابها في تربيته سوف يكرمها، اعلن هو انه قرر الهجرة الى الخارج هربا من مشاكل والديه.

قيل ان السيدة هاء لم تعتب على ولدها ولم تمنعه من السفر. تعاملت مع قراره بصمت كامل. وسافر هو وعاشت هي حالة انطواء وصمت لبضعة شهور ثم مرضت مرضا لم يستمر سوى اسبوع واكتشف الاطباء ان سرطانا انتشر في جسمها بحيث لا يرجى منه شفاء. ثم اغمضت عينيها الى الابد. وقالوا ان قلبها انكسر.

تذكرتها اليوم حين قرأت ان العلماء اعترفوا اخيرا بأن هناك علاقة قوية بين ما يجري في مستودعات الفكر ومستودعات العاطفة. وأن الضغط العصبي والنفسي له تأثير سلبي على جهاز المناعة.

وما نسميه بالضغط النفسي ما هو الا ترجمة ما تستقبله الحواس الخمس على مدى الساعات الاربع والعشرين وتنقله للمخ والجهاز العصبي كاستجابة او ردود فعل لظروف الحياة. والغريب ان ردود الفعل السلبية لما يجري في حياة الفرد تتسبب حتى في تغير شكل الخلايا. فالخلية السليمة مستديرة وناعمة وهي الخلية التي تؤدي وظائفها بكفاءة فتحافظ على صحة الجسم. ولكن تحت تأثير الضغط النفسي تفقد الخلايا استدارتها ونعومتها وتكتسب شكلا مشوها غير قادر على تأدية وظائفه. صحيح ان الجسم مبرمج على استيعاب قدر معين من الضغوط كل يوم ثم تجدد الخلايا نفسها في ساعات الراحة. ولكن تواصل الضغوط يؤدي الى اتلاف خلايا بالملايين وحين تتلف الخلايا تضعف مناعة الجسم وتغزوه الامراض. التهابات المفاصل مثلا يمكن ان تكون من نتاج الحزن او الغضب. والالتهاب يحفز جهاز المناعة على انتاج خلايا طاردة لهجوم الكيماويات المسببة لأعراض الحزن والاكتئاب. وعلى المدى القصير تنجح استراتيجية الجسم في محاربة الغزاة وطرد العدوى وشفاء المرض. ولكن استمرار الحزن على المدى الطويل يؤدي الى ارتفاع ضغط الدم وامراض القلب التي تتفاقم بشكل سريع، الى جانب الصداع النصفي والأرق. واكتشفت اليوم ابحاثا تؤكد ان انتشار الاورام السرطانية يرتبط ايضا بالحزن المتصل. وهنا فقط فهمت كيف ماتت السيدة هاء بسبب قلب كسير.

الحزن اذن هو العدو الخفي الذي يتآمر على حياتك وحياتي وحياة الآخرين. اذا كانت لديك استراتيجية مجربة لمحاربته اتمنى ان تشاركنا اياها. وان فضلت ان تحتفظ بها لنفسك شاركني في الدعاء بالرحمة للسيدة هاء ومثيلاتها فهن كثيرات.