قطيع من الغزلان

TT

كل إنسان تمر عليه في حياته (بلاوي) متلتلة، بعضهم تمر عليه تلك البلاوي مرور الكرام (ولا أحد من شاف، ولا احد من دري)، أي أن ملاحظته أو تفاعله مع الأحداث تكون شبه معدومة، وبعضهم من شدّة (حشريّته)، و(لقافته) يرصد كل حركة وكل كلمة، وكأنه رجل مباحث أو استخبارات، ومحسوبكم من الصنف الثاني، وكم كنت أتمنى لو أن في جيبي دائماً ورقة وقلماً لكي أسجل الكثير من ملاحظاتي، غير أن من نقائصي أو نقاط ضعفي أنني لا أطيق أن أضع أي شيء في جيوبي مخافة أن يثقل عليّ، فأنا دائماً أريد أن أكون طليقاً وخفيفاً، لهذا مع الأسف تفوت عليّ تسجيل الكثير من الأحداث أو المواقف، ولا اكتب إلا ما أتذكره، أما ما أنساه فهو أكثر من ذلك بكثير، وهناك احتمال انه بعد أن يغنيني الله بعد (عمر قصير)، إنني سوف أوظف سكرتيراً اصطحبه معي لأملي عليه ليكتب ملاحظاتي.

ومن تلك المواقف التي عايشتها قبل أسبوع.أنني كنت راكباً مع احد المعارف في سيارته، وكان يقودها على مهل في شارع عريض فسيح، وإذا بنا، نشاهد ثلاث فتيات ممشوقات متمايلات ضاحكات تلعب الرياح بشعر واحدة منهن، أما الثانية فكان شعرها (معقوص) ولكنه (يأخذ العقل)، أما الثالثة فقد زانها الحجاب جمالاً فوق جمال، كنت فقط انظر (وأبسمل وأحوقل)، وكان وجه رفيقي تحول كله إلى فم مفتوح كالمغارة، وبينما كنا على هذه الحال التي لا تسر عدواً ولا صديقاً، وإذا بسيارتنا ترتطم أو تصطدم بالسيارة التي أمامها، ومن حسن الحظ أن الصدمة كانت خفيفة، وتوقفنا إجبارياً، ونزل صاحب السيارة المصدومة، وكان رجلاً طويلاً عريضاً مفتول العضلات، خمنت انه إما أن يكون مصارعاً، أو من حملة الأوزان الثقيلة، واتجه إلينا (متفاحجاً) في مشيته، وأول شيء فعلته أنا لا شعورياً أن أغلقت زجاج النافذة التي كنت قد سبق لي أن فتحتها لكي (اصّفر) بفمي، لأن لدي موهبة بالتصفير، وبارع جداً في هذا النوع من الفن.

تركني ذلك المصارع بعد أن لاحظ أنني غير (كفء)، واتجه ناحية رفيقي الذي بادره بالابتسام والاعتذار، غير أن المصارع وضع كلتا يديه على حافة باب السيارة، وقال: لا تعتذر ولا تتأسف فمعك كامل الحق لو انك صدمتني، لأنني كنت مثلكما أشاهد ما شاهدتماه، وأوقفت السيارة مذهولاً في عرض الطريق دون أن اشعر، فصدمتني أنت، والحق ليس عليك وليس عليّ أنا، وإنما الحق على الغزلان.

عندها تنفست الصعداء وهتفت بصوت مصرقع من شدة الفرح، وقلت له وكأنني اكتشفت الذرة: أنت تقصد البنات، تأملني، ثم تفحصني، ثم حدّجني وكأنه لم يعجبه تصحيحي لكلمة (الغزلان).

تركنا وانطلق بسيارته، في الوقت الذي أخذت فيه أنا اصّفر، فقال لي رفيقي، توقف عن التصفير لقد أزعجتني وصنجت أذني، وان لم تتوقف سوف أنزلك من سيارتي.

وفعلاً توقفت، وأصبح تصفيري كله داخلياً ـ أي بيني وبين نفسي ـ

[email protected]