تغيير الاتجاه: بوش.. ستالين.. هل يجمعهما إرث مشترك؟

TT

كان العنوان الرئيسي على غلاف مجلة «الايكونومست» الصادر بتاريخ 11 ـ 17 آب 2007: «هل تتحول أمريكا إلى اليسار؟» وكان الجواب هو ربما، ولكن ليس بالطريقة التي يأملها العديدون من الأجانب وبعض الأمريكيين أيضاً! يناقش المقال الآثار السلبية لسياسات بوش الابن الخارجية على الحزب الجمهوري وعلى التوجّه السياسي العام للشعب الأمريكي حتى بعد مغادرة الرئيس بوش منصبه. ويستنتج المقال إنّ المزاج الشعبي في الولايات المتحدة لن يعود إلى الوسط، بل إلى اليسار. ويختتم المقال بالقول «في عام 1968، حين كانت أمريكا غارقة في حرب أخرى، قلّة هم الليبراليون الذين رأوا في ذلك الحين إستراتيجية ريتشارد نيكسون الجنوبية كجزء من تحوّل طويل الأمد إلى اليمين. الشيء الوحيد الذي كان واضحاً هو أنّ غالبية الأمريكيين كانوا توّاقين لتغيّير الاتجاه. هذا أيضاً صحيح اليوم».

لا شكّ أنّ هذا صحيح جداً اليوم، رغم كلّ التدخّلات القسرية النشطة للآلة الإعلامية الأمريكية الضخمة للتخفّيف من الآثار الكارثية لحروب بوش الابن ومجموعته من المحافظين الجدد، كي تُفسَّرَ نتائجها بعيداً عن الواقع الفعلي، وبعيداً عمّا يشعر به معظم سكان المعمورة خاصة في الولايات المتحدة، وأيضاً في فلسطين والعراق ولبنان، والشرق الأوسط عموماً. ولذلك فإنّ محاولة الرئيس بوش مؤخراً مقارنة ما يجري في العراق بما جرى في فيتنام جاءت فقط للإمعان في سياسة رفض الانسحاب من العراق، وللتمادي في سياسة زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط بما في ذلك لبنان وفلسطين والصومال والسودان، ولم تكن المقارنة بالنتائج الكارثية لهاتين الحربين، خاصة قتل الملايين من المدنيين الأبرياء وتدمير حياة ملايين أخرى، لأسباب آيديولوجية بحتة، ولذلك واجهت هذه المحاولة الانتقادات في الصحف الغربية حيثُ اعتبر معظم المحللين أنّ بوش في هذه المقارنة قد زيّف التاريخ لأنه استخدمه من أجل تبرير البقاء في العراق، أي الاستمرار بقتل المزيد من المدنيين العراقيين في حربٍ دمويةٍ لا نهاية لها سوى خروج المحتل الأجنبي. وعلّ من أهمّ ما قيل في هذا الصدد هو ما قاله دافيد هيندركسون، المختص في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية في كلية كولورادو، حيثُ قال: «لا شكّ أنّ فشل أمريكا في فيتنام قاد إلى نتائج كارثية في المنطقة، وخاصة في كمبوديا، ولكن هناك نقطتين أخريين يجب أخذهما بعين الاعتبار: الأولى هي أن الخمير الحمر ما كانوا ليصلوا إلى السلطة لولا الحرب في فيتنام... الشيء ذاته حدث في الشرق الأوسط اليوم. لقد خلق الاحتلال الأجنبي للعراق إرهابيين أكثر بكثير من الذين ردعهم». السؤال الذي سأله الرئيس بوش لا علاقة له بجوهر المشكلة، ولا بأي احتمال حلّ لها حين قال: «إن السؤال أمامنا اليوم يتلخص بالتالي: هل سيقاوم هذا الجيل من الأمريكيين إغراء الانسحاب ويفعلون في الشرق الأوسط ما فعله المحاربون القدماء الموجودون في هذه الغرفة، ما فعلوه في آسيا» «الهيرالد تريبيون 23 آب 2007». أمّا السؤال الحقيقي فهو: ماذا ستفعل الإدارة الأميركية حيال حرب برهنت على أنّها كارثيّة لشعبٍ لم يرتكب ذنباً بحقّ الأمريكيين، كما أنّ الشعب الأمريكي بمجمله قد ضاق ذرعاً بهذه الحرب العبثيّة الكارثيّة؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يرفض طرحه الرئيس بوش ومجموعته الحاكمة من مؤدلجي تيار المحافظين الجدد، المتسمين بالعدوانية، والاستبداد بالرأي، وأساليب العنف غير الشرعية، لأنّ الإجابة عليه تبدأ بالاعتراف بخطأ القرار بشنّ هذه الحرب، ومن ثمّ الاعتراف بالجرائم الكبرى التي ارتُكِبَت ضدّ البشرية دون أي مبرر بحقّ الشعب العراقي، وبحقّ الشعب الأمريكي أيضاً.

إن جوهر المشكلة في استراتيجية بوش الابن وفريقه تجاه العراق، والشرق الأوسط، هو أنّهم يفكّرون بأنّ الشرق الأوسط بعيد جداً عن الولايات المتحدة وأنّ ما يفعلونه هنا وراء البحار لا يؤثر على مجريات الأمور داخل الولايات المتحدة، أو أنّ الشعب العربي يختلف بالقيمة الإنسانيّة عن الشعب الأمريكي ولذلك، وفق المفاهيم العنصرية لهذا الفريق، إن لا ضرر من استباحة دماء العراقيين، وإذلالهم، وقتلهم، وتشريدهم، فهم في الواقع عربٌ كالفلسطينيين واللبنانيين، وقبلهم الجزائريين، يمكن قتلهم دون عقاب ولا حتى اعتذار. وأنّ استخدام وسائل الإعلام الغربيّة المفاهيم العنصرية نفسها ستؤدي إلى حجب كلّ هذه الجرائم عن الأمريكيين، وإنّ ذلك سوف ينقذ النظام الأمريكي ومستقبل أمريكا من آثار هذه الحرب.

ولكي أتناول التأثير البعيد والمستقبلي لهذه الحرب على توجّه الشعب الأمريكي المستقبلي سأضرب مثلا قريباً عن إحدى عواقب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين على الإسرائيليين أنفسهم. فجميع من يقرأ يومياً الصحف الإسرائيلية، يرى كيف تعرض وسائل الإعلام تلك، مع أنّها مناهضة للمحرقة عندما يتعلّق الأمر باليهود، قتل جيش ومخابرات إسرائيل اليومي لأطفال فلسطين ولبنان بذرائع مخزية، أصبحت مكشوفة جداً للجميع بمن في ذلك وسائل الإعلام نفسها. فالإسرائيليون يعرفون المعنى الوحيد لعمليات التنكيل الإسرائيلية اليومية بشباب ونساء وأطفال فلسطين على الحواجز، وعلى الطرقات، وفي المدن، والقرى، والمدارس، حتى وإن استخدمت إسرائيل اللوبيات اليهودية في العالم لمنع توصيف هذه الممارسات بالجرائم، وحتى وإن ابتزّت السياسيين والإعلاميين باللاسامية حين يصفون ما ترتكبه إسرائيل من قتل وتعذيب وحرمان شعب فلسطين من الحريّة بما هي فعلا: «جرائم ضدّ الإنسانيّة». ففي آخر تقرير قرأته عن المجتمع الإسرائيلي هو ارتفاع معدلات العنف والجريمة خاصة بين أولئك الذين يمارسون هذه الجرائم في الضفّة وغزّة ضدّ العرب، أي أنّ القاتل الإسرائيلي الذي تدرّبه حكومة أولمرت على استباحة دم الطفل الفلسطيني أو اللبناني سوف يسهل عليه الاستهانة بدم أي طفل في العالم حتى ولو كان من بني جلده. ما لا يحسب هؤلاء الطغاة، الذين يريدون تغيير العالم وفق آيديولوجيتهم،عبر عمليات القتل والعنف مستخدمين الحرب، والسجون، والتعذيب، وغطرسة القوّة، له حساب هو الأثر الذي تتركه هذه الحروب والجرائم على البشر في كلّ مكان، وبالأخصّ على شعوبهم وأنظمتهم وتاريخهم. وعلّ الأثر الأهمّ لحرب بوش الابن على العراق بالنسبة للأمريكيين، والنظام الأمريكي، هو فقدان العالم الثقة بهذا النظام الذي عجز بدستوره ومؤسساته عن ردع رئيس يمارس كل هذا القتل العبثي، فإذا كان مثل هذا النظام الديمقراطي الذي يدّعي أنّه وُجِد من أجل الإنسان، وحريته، وحياته الكريمة قادراً على خلق كلّ هذا الإذلال، والقتل، والتعذيب، والألم، والمأساة لملايين البشر فما الفرق بينه وبين نظام ستالين السوفياتي؟ فإذا كان الدستور الأمريكي، ومؤسساته الديمقراطية عاجزة عن إيقاف بوش من الاستمرار بقتل وتهجير الملايين من العراقيين، ومن المدنيين الأبرياء في فلسطين ولبنان، فما الفرق بين هذا النظام و«ديمقراطيته» وبين نظام ستالين و«شيوعيته»؟ صورة الولايات المتحدة كداعية للحريّة وحقوق الإنسان هي أول ضحيّة من ضحايا حرب بوش الابن على العراق. وانهيار هذه الصورة ليس في أذهان العرب وحدهم، بل رأيتُ وقرأتُ وسمعتُ بنفسي أنّه يشمل الكثير من الأمريكيين والأوروبيين وشعوب العالم الأخرى. انهيار الثقة بالنظام الديمقراطي الأمريكي هذا سيكون ذا نتائج بعيدة المدى على امتداد القرن الحادي والعشرين، وسوف تكون هذه النتائج حقيقية في الولايات المتحدة قبل غيرها حيثُ أصبح كل مواطن أمريكي مشبوه في نظر أجهزة المخابرات العديدة، وستزداد مخاوف حكومته منه، ولذلك ستزداد وتيرة المراقبة وتتراجع الحريّة.

ولا شكّ أنّ الأجيال القادمة من الأمريكيين سوف تشعر بالخجل من الجرائم التي ترتكبها جيوشهم ومخابراتهم، وسوف تعتذر عن المآسي التي سبّبتها هذه الإدارة لشعب العراق، وفلسطين، ولبنان وغيرها. والأثر الأخطر هو أنّ كلمتيّ «الديمقراطية» و«الحريّة» كما استخدمهما بوش الابن قد تمّ إفراغهما من مضمونهما الحقيقي، وأصبحتا عندما ينطق بوش الابن بأيٍ منهما، من الكلمات «المشتبه» فيها، بعد أن كانتا تمثّلان حلم الإنسانية النبيل.

وبالتوازي مع العراق فإنّ موقف الولايات المتحدة من القتل اليومي وسياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في الضفّة والقطاع لن تكون أقلّ أثراً في هذا التحوّل المستقبلي الذي بدأت بوادره تظهر في الولايات المتحدة والعالم. من هنا أيضاً يأتي استنتاج جون ميرشيمر وستيفن والت في كتابهما الجديد: «اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية» هاماً جداً لأنه للمرة الأولى يوثّق في كتاب من قبل باحثين مرموقين «أنّ أثر اللوبي الإسرائيلي قاد إلى تخطيط سياسات تتناقض مع المصالح القوميّة الأمريكية وأنّ هذه السياسة، بشكل غير مقصود، تلحق الضرر أيضاً بإسرائيل وأنّ على الدولتين انتهاج أساليب عمل أخرى».

إنّ محاولة حكّام إسرائيل ممارسة ضغوط على الكاتبين ومحاولة التشهير بالكتاب لن تفيدهم في شيء، لأنّ الشعوب في الولايات المتحدة والشرق الأوسط بدأت تقتنع بضرورة تغيير الاتجاه وحين تقتنع الشعوب بذلك لا يمكن لأي قوّة في الكون أن تغيّر مسارها. يقابل هذا التغيير المتنامي تغيير آخر في الشرق الأوسط توّاق للحريّة والكرامة والعدالة، ومن هنا فإنّ تداعيات الحرب على العراق، والظلم الغربي الذي يبدو أزلياً للفلسطينيين، والعبث الأصمّ للسياسة الأميركية في لبنان، وتجاه العرب والمسلمين عموماً، ستكون العوامل الحقيقية لتكوين عالم أفضل يخلّص الأجيال المستقبلية من عار إرث هذا الجيل من المحافظين الجدد.

كما أن صورة الشيوعية لم تعد نفسها بعد ستالين فإن صورة الولايات المتحدة لن تكون بعد بوش كما كانت قبله. لقد بدأ التغيير في الاتجاه في الولايات المتحدة ولن يوقفه الانسحاب من العراق سواء أكان اليوم أو بعد عام. قد يستغرق هذا التغيير أعواماً ليتبلور ويصبح واضحاً للعيان. ولكن دون شك أنه بدأ. سيكون لواشنطن «ربيعها» كما كان لموسكو «ربيعها» ولبراغ «ربيعها» أيضاً.