أزماتنا.. والقيادات الموهوبة

TT

تتعاقب العصور، ولكل حقبة ثقافتها وصراعاتها وأزماتها. والتاريخ يسجل للعظماء في مختلف العصور مواقفهم ونجاحاتهم وإخفاقاتهم. المواقف هي التي تخلد العظماء، كما أن العظماء هم الذين يصنعون المواقف التي تستحق الذكر والافتخار.

لذلك عندما يتم ذكر الإمبراطوريات والحضارات الغابرة، يخطر في البال سجل الخالدين فيها، أمثال عمر بن عبد العزيز في الدولة الأموية، وهارون الرشيد في الدولة العباسية، وعبد الرحمن الناصر في ممالك الأندلس، وصلاح الدين في الدولة الأيوبية، ومحمد الفاتح في الخلافة العثمانية، وفي الزمن الحاضر يخطر في البال قادة أفذاذ أمثال: أوتو فون بسمارك الذي وحد ألمانيا، وإبراهيم لينكولن الذي أنهى عهد العبودية في أمريكا، والإمبراطور موتسوهيتو «ميجي» الذي ألغى المعاقل الإقطاعية في اليابان، وعبد العزيز بن سعود الذي أسس أعظم وحدة عربية حديثة، وشارل ديغول الذي أخرج فرنسا من مستنقع الحرب الجزائرية وأسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، ومهاتير غاندي في الهند، ومحمد علي جناح في الباكستان، وهوشي منه في فيتنام، وميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي السابق، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وزايد آل نهيان في الإمارات، وقابوس بن سعيد في عُمان.. وآخرين يصعب حصرهم.

نعم يخطر في البال زعامات عظيمة مارست السياسة، وانخرطت في الشأن العام، وصنعت تاريخاً، واستطاعت أن تحقق في حياتها الكثير من الإنجازات لشعوبها ولحضارتها، مما خلد اسمها في ذاكرة الأجيال.

القيادات الحقيقية تحدد أهدافها، وتجمع الناس حولها، وتسخر الإمكانات المتاحة لتحقيق مشروعها، وتمضي في مسيرتها نحو الأهداف الخيرة لا تحيد عنها، ولا تبدد الأوقات والطاقات في ما لا طائل خلفه. المشاريع الكبيرة والأزمات الشائكة يتصدى لها القادة الكبار، الذين تحبهم شعوبهم، ويثق بهم أصدقاؤهم، ويحترمهم من يختلف معهم. ولو أخذنا –كنموذج ـ الأزمات المعقدة التي كانت في شبه القارة الهندية في بداية القرن الماضي، التي كانت خليطاً من العرقيات والأديان والطبقيات العرقية والاقتصادية مع وجود الاستعمار البريطاني المتمرس في توظيف الاختلافات بين الشعوب، لوجدنا أنها تمخضت عن نتائج باهرة وباقية.

لقد استقلت الهند وتأسست فيها أكبر ديمقراطية في العالم، وتأسست جمهورية الباكستان الإسلامية. كيف حدث ذلك؟ لقد كان للقادة الموهوبين الفضل في توجيه شعوبهم، فالمهاتما غاندي قاد الهنود المتعصبين فوحد كلمتهم وحملهم على القبول باستقلال باكستان، كما أن القائد محمد علي جناح وجه المسلمين للاستقلال وتأسيس كيان إسلامي يحتضنهم ويعلي شأنهم. ولقد رأينا ان الدول التي جربت الاستعمار، إنما استقلت لوجود قيادات مخلصة ضحت في سبيل تحرير أوطانها ونيل استقلالها، وما حدث في مصر والجزائر وفي تونس وفي المغرب ولبنان وسوريا وغيرها نماذج راسخة في ذاكرة الشعوب والمتابعين.

إن القراءة المتمعنة لتاريخ مناهضة التمييز العنصري في جنوب افريقيا بقيادة الزعيم مانديلا، وما حققه ذلك المحامي الحكيم من نجاح بعد سجن دام 27 عاماً يمكن أن توضح الفرق بينه وبين بعض القيادات العربية التي ضيعت أوطانها وشوهت قضاياها.

إنه ليحزن أن نرى الوطن العربي يعيش في «تيه» حضاري وسياسي وطائفي أهدر الطاقات، ومزق العواطف، واستنزف الإمكانات منذ عدة عقود. والمستقبل ما زال غامضاً وينذر بالكثير من المفاجآت الكارثية، على الرغم مما نادى به المجازفون من مفاجآت كبرى لإسرائيل، ومما تشدّق به المحترفون في حياكة المؤامرات بأنهم قادة الأمة في صمودها ونضالها.

عظماء القادة يعيشون عيشة سوية، ويتفادون الأزمات، ويصنعون الأنصار لقضاياهم، ويجمعون أطياف الأمة على الأهداف الواضحة، أما «القادة المزيفون» فإنهم يعيشون في المخابئ والمغارات، ويعشقون إشعال الأزمات، ويجازفون بمقدرات الأمة ومستقبلها، ويعيشون على الادعاء والبطولات الفارغة والشعارات الجوفاء.

إن ما تعيشه الشعوب العربية في الحاضر ليس إلا نتيجة لما اقترفته أيادي «القيادات المزيفة»، التي تسنمت الصدارة، وصارت تصدّر النظريات الفاسدة، وتطلق الصيحات الفارغة، وتعد بالمفاجآت الخيالية عبر وسائل الاتصالات الحديثة، وتشعل الفتن والحروب من جبل إلى جبل ومن مخيم إلى مخيم ومن جيل إلى جيل، وتستمرئ التصفيات والاغتيالات بدون حرج أو تردد.. ولسان حال القيادات العاقلة يردد المثل القائل، «ويل للعاقل من الأحمق»، ومن سوء الحظ أن أتباع ومناصري تلك القيادات المزيفة يملكون الأموال والأسلحة والكيانات التي تسهل لهم التحرك، وتضمن لهم الحماية ما استطاعت. مع كل ذلك فإن قادة الرأي وغالبية الشعوب العربية أصبحت تدرك أن تلك القيادات المتهورة وما تمتلكه من مسلحين ومصفقين ليسوا سوى عقبة أمام النهضة العربية المطلوبة، وأن الشعارات الجوفاء والصيحات الفارغة ـ سواء كانت دينية أو قومية ـ لن تعيد حقوقا ضائعة، ولن تملأ بطوناً جائعة، ولن تخرج الدول والأوطان من الأزمات، والتاريخ يؤكد «أن البقاء للأصلح». لذا، فإن أمتنا بحاجة إلى القادة الموهوبين الحقيقيين الذين يرعون مشاريعها الكبرى ويخرجونها من تيهها ومن أزماتها المستعصية.

* كاتب وعضو مجلس الشورى السعودي

[email protected]