وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!

TT

هو صديق أمريكي قديم كان يعمل أستاذا للعلوم السياسية في الجامعات الأمريكية، انقطعت أخباره عني لأكثر من ثلاثين عاما ثم فوجئت منذ عام تقريبا بمكالمة تليفونية منه يخبرني فيها بأنه موجود في القاهرة، ويريد مقابلتي لأمر مهم.

لأسباب لا تخفى على فطنة القارئ سأذكر اسمه الأول فقط وهو جون، من النادر أن تحدث مفاجآت مفرحة لهؤلاء الذين تخطوا سن السبعين، غير أن هذا النادر قد حدث، الرجل يعرض علي مشروعا ينقلني في لحظة إلى القمة ماليا واجتماعيا وإعلاميا وسياسيا. على العشاء الفخم بدأ جون يشرح تفاصيل مشروعه: هناك فقر شديد في الإعلام الحر في المنطقة، ودعاة الحرب والتخلف والتطرف يشكلون السواد الأعظم في الإعلام المسموع والمقروء والمرئي، لذلك كان لا بد من إعلام حر يتسم بالجرأة والشجاعة يتعامل مع الحقيقة كما هي ويدفع عقول أهل هذه المنطقة بنعومة وإصرار إلى اعتناق مبادئ السلام والتنمية والحرية وحقوق الإنسان الفرد.. لابد من دعم أصحاب الأفكار الحرة وإتاحة الفرصة لهم لكي يتمكنوا من مواجهة دعاة التخلف والعنف والوحشية.. بهذه الطريقة وحدها يمكن إنقاذ سكان هذه المنطقة من مصير تعيس ينتظرهم إذا بقي الإعلام عندكم على ما هو عليه.. لذلك وقع عليك الاختيار لتكون مالكا ومسؤولا عن محطة فضائية وجريدة يومية.

مرت لحظات أفكر فيها فيما قاله ثم قلت: ياه يا عزيزى جون.. تأتيني بعد هذه الغيبة الطويلة بمشروع كان يجب عليك أن تعرضه علي منذ عشرين عاما.. ماذا عن التمويل؟.. أي جهة أمريكية أو أوروبية أو حتى عربية تقوم بتمويل هذا المشروع، ستوقظ العفاريت في عقول كل أجهزة الأمن في مصر.

فقال جون: لن يقوم أحد بتمويلك.. أنت الذي ستقوم بتمويل المحطة والجريدة.. من فلوسك.. من مالك.. من حر مالك.

سكت لأتيح له الفرصة ليكمل كلامه، الرجل يتكلم عن حر مالي، من الواضح أنه لا يعرف شيئا عني ولا عن ظروفي المادية. مضى جون يقول: لك عمة غنية في استراليا.

قاطعته: ليست لي عمة غنية أو فقيرة في أي مكان على الأرض.

قال جون: من فضلك اسمعنى ولا تقاطعني.. لك عمة غنية في استراليا.. سترث عنها مائة مليون دولار.. هي غنية جدا، مليونيرة.. لديها مزرعة كبيرة لتربية البغال الاسترالية ولديها عقارات ومزارع، وأنت الوارث الوحيد لها.. هي ستموت بعد أسبوعين بالضبط.. جرائد استراليا ستنشر خبرا تقول فيه انها مريضة جدا وأنها أوصت بثروتها للكاتب المصري فلان اللي هو حضرتك.. كما ستنشر الجرائد المصرية خبرا أنك ستسافر إلى استراليا لزيارة عمتك المريضة التي لم ترها منذ أن هاجرت منذ ستين عاما.. وبعد وفاتها سينشر خبر يقول إنك ورثت عنها مائة مليون دولار.. وفي صباح اليوم التالي ستنشر الجرائد المصرية، أنك تفكر في إنشاء جريدة يومية ومحطة فضائية.

قال ذلك ثم أخرج من حقيبة أوراقه الجلدية عدة أوراق ثم أكمل: هذه هي صورة من شهادة وفاة عمتك، وهذه صورة من وصيتها، الأصل محفوظ عند محاميها، وهذا إعلام وراثة من محكمة سيدني الشرعية ومعتمد من سفارتكم بأنك وريثها الوحيد.. وقد أرسلت منه صورة للبنك ليقوم بتحويل المبلغ لك في القاهرة.

بعد ذلك أخرج ملفا كبيرا وقال: هذه هي دراسة الجدوى حول المشروع.. لا بد أن تترك كل شيء في حياتك وتتفرغ لهذا المشروع..

سألته: هل تعتقد أن أجهزة الأمن المصرية لم ترصد لقاءنا هذا؟

ابتسم وأجاب: رصدته طبعا بل وقامت بتسجيل حوارنا كاملا.

أخرج من جيبه جهاز كمبيوتر صغير جدا وضغط على عدة أزرار فظهرت على الشاشة صورة لسيدة جميلة.. ترى أين رأيت هذه السيدة من قبل؟

قال: ألا تعرفها.. إنها المضيفة التى قدمت لنا الطعام.. هي تعمل ضابطا في جهاز سيادي كبير عندكم..

ضغط على زر آخر فظهرت صورة أخرى لشاب صغير عرفته على الفور، إنه مساعد الجرسون الذى قدم لنا السلاطة.. هو الآخر يعمل في جهاز أمني كبير برتبة ملازم أول..

مضى جون يقول: هذه المائدة مجهزة بخمسة ميكروفونات حساسة.. ثلاثة في فازة الورد وواحد في ملاحة الملح والخامس في ملاحة الفلفل، ثم ثلاث كاميرات فيديو وهي تدار كلها من غرفة تحكم في شقة تبعد عن الفندق بشارعين .. يا عزيزي.. اللعب الآن على المكشوف.

شعرت بالغضب وقلت له بحدة: آه أنت تقدمني لهم الآن على طبق من الفضة.. لأكثر من خمسين عاما وأنا أعمل لحساب نفسي.. أقوم بعمل ما يمليه علي ضميري وعقلي.. وأنت تطلب مني الآن أن أعمل لحساب الآخرين.

قال بهدوء: لا لن تعمل لحساب الآخرين.. ستعمل لحساب نفسك بإمكانيات هائلة توفرها لك أمريكا والاتحاد الأوروبي.

قلت في سخط: السلطة في مصر وكل أجهزة الأمن تشعر تجاهي بالاحترام.. وأنت الآن..

قاطعني قائلا: الاحترام؟.. لا هي تشعر تجاهك بالحيرة.. هم يؤمنون أن معظم أصحاب الأقلام يعملون عند جهة ما.. ويشعرون بالخوف من أمثالك الذين يدافعون مجانا عن الحرية والسلام.. صدقني عندهم معلومات موثقة عن كل قرش قبضه أي مشتغل بالإعلام.. الآن فقط لن يشعروا تجاهك بالحيرة والحذر.. سيتنفسون الصعداء بعد أن يكتشفوا أنك وغد مثل الآخرين.. عندها لن يخشاك أحد وتصبح عندهم فرخة بكشك..

فى تلك اللحظة كان الجرسون الشاب يغير منفضة السجائر فسأله جون بابتسامة: مش كده برضه..؟

فأجاب الشاب: كده يا باشا..

انصرف الشاب وجاءت المضيفة وقالت لي وهي تبتسم ابتسامة عريضة: أستاذ فلان، أنا من قرائك.. ومعجبة جدا بأحاديثك وشجاعتك في الفضائيات.. صدقني اللي زيك لازم يبقى عنده جورنال ومحطة فضائية.

انصرفت وهي تبتسم ابتسامة غامضة، وكأنها تقول: اتكل على الله.. ما تبقاش راجل فقري.. اطلع على وش الدنيا.

ربما تكون أجهزة الأمن والأجهزة السياسية في حاجة إلى الشرفاء، غير أنها أشد احتياجا للأوغاد.. لا بأس، أنا أيضا أريد أن أجرب حياة الأوغاد، كيف تكتمل تجربتي الحياتية بغير أن أكون وغدا لفترة من الزمن أو لبقية العمر.

تم تحويل المائة مليون دولار لحسابي في بنك مصر ـ حساب يوم بيوم ـ وبدأت العمل فورا، تخلصت من سيارتي الصيني الصغيرة واشتريت مرسيدس سوداء، اشتريت شقة جديدة على النيل، وفيلا في الساحل الشمالي في بورتو مارينا.. كان لا بد من استكمال كل أسباب الأبهة والوجاهة الاجتماعية، حتى لا يتهمني أحد بالشح بعد أن ورثت هذا المبلغ الكبير.

اخترت للجريدة اسم «السلام عليكم» أما المحطة فأسميتها «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» اخترت بنفسي كل العاملين من السعاة والفراشين إلى المحررين والفنيين، كما قمت بالفصل بين الملكية والإدارة، أنا المالك فقط، ولذلك اخترت رئيسا للقناة ورئيسا للتحرير، تأكدت أولا أنهم جميعا ضد الإرهاب وضد التطرف، كلهم يؤمنون بأن الغرب يمثل ضمير العصر، كانوا جميعا يؤمنون بحتمية السلام في المنطقة وبحتمية وجود دولة فلسطينية تعيش في سلام وجيرة طيبة مع إسرائيل. كل العاملين كانوا متحمسين للعمل أشد الحماسة، وخاصة بعد أن أعطيتهم خمسة أضعاف أمثال ما تدفعه الجرائد والمحطات الأخرى وذلك لكي أضمن أن يتفرغوا للعمل.

تركتهم وسافرت إلى إيطاليا وأقمت في قرية صغيرة سمعت من قبل أن أصحاب الملايين يقيمون فيها أثناء أجازاتهم، تفرغت لكتابة مسرحية تمهيدا لإنشاء فرقة مسرحية، كنت أتصل برئيس التحرير ورئيس المحطة كل يومين للاطمئنان على سير العمل ثم عدت إلى القاهرة بعد ستة شهور بعد ظهور الأعداد الزيرو من الجريدة وبدء البث التجريبي في المحطة، كانت النتيجة كارثية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، مقالات نارية ضد أمريكا التي تمثل الشر المعاصر على الأرض، وضد الاتحاد الأوروبي، وضد قيم الغرب الوغد الذي يريد الهيمنة على المنطقة العربية ومنعها من النمو، وضد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، هذا بالإضافة لحملات ساخنة ضد التوجه إلى الحرية الاقتصادية، ثم مقالات مهينة تشتم الناس بغير قضية، اتضح لي أنني قمت بتعيين جماعة من الزعماء الثوريين وليس من الصحفيين، عقدت معهم اجتماعا وطلبت منهم تفسيرا لذلك فأجابوا: إنت عاوزهم يقولوا علينا بتوع أمريكا وإسرائيل..؟

في الأول لازم نهاجم أمريكا وإسرائيل بضراوة.. وعشان نهاجمهم لازم نتعاطف شوية مع بن لادن وحزب الله وحماس.. وبعدين على مهلنا نصحح المسار بتاعنا وناخد الخط الصحيح.. حضرتك فنان .. إيه اللي فهمك في السياسة والصحافة.. ؟ واسمح لنا نكلمك بصراحة.. حضرتك صاحب المال فقط.. هل تتصور أننا سنسمح لك بالتدخل في عملنا وإفساد الصحافة.. سيبنا نشتغل، إحنا فاهمين شغلنا.

نفس الشيء وأسوأ منه حدث فى المحطة، حتى عندما قررت أن أكون وغدا فشلت في ذلك، اتصلت بجون تليفونيا وطلبت منه أن يحضر لأمر مهم، اصطحبته من المطار وذهبت به إلى مطعم بلدي في حي السيدة زينب الشعبي لكي أفلت من المتابعة الأمنية، المحل يقدم لحم الرأس والكوارع والممبار، رحب بنا الحاج أحمد صاحب المطعم، فوجئت به يحدق في وجه صاحبي ويصيح في دهشة: مين.. جون؟

فقال جون: إزيك يا أحمد.. أخبارك إيه وعامل إيه؟

ثم التفت إلي وقال: أحمد اشتغل معانا فترة طويلة في الـFBI وبعد كده اشتغل مع الــCIA في مكتب مكافحة الإرهاب، وعمل كام خبطة حلوين أوي.. وبعد كده اختفى.

قال الحاج أحمد: ماختفيتش ولا حاجة.. والدي توفي فأنا قررت آجى أمسك المحل.. بس لسه برضه شغال في مكافحة الإرهاب على المستوى المحلي.

قال لي جون: نعرف ما حدث في الجريدة والمحطة.. المشروع أصلا مثالي وخيالي غير قابل للتحقق.. استمر.. لا سبيل إلى التراجع.. هل تستطيع مواصلة الحياة بغير شقة النيل والفيلا في بورت مارينا والسيارة المرسيدس.. ورصيدك في البنك.. هل تستطيع أن تعود فقيرا مرة أخرى..؟ أكمل الطريق.. أنا شخصيا لا أستطيع أن أعود لأصحاب الشأن في أمريكا والاتحاد الأوروبي لأقول لهم ان الحرية لا يمكن صنعها بأشخاص لم يذوقوها من قبل.. عندكم مثل شعبي يقول.. تعرف فلان..؟ أعرفه.. عاشرته.. ؟ لا.. يبقى ما تعرفوش.. وبالمقابل أقول.. تعرف الديموقراطية؟.. أعرفها.. عاشرتها؟ .. لا.. تبقى ما تعرفهاش.

وبدأنا تناول العشاء، ساد الصمت بيننا، لم نتبادل كلمة واحدة، أوصلته إلى المطار ثم عدت إلى البيت.. في الطريق سألت نفسي.. هل ما أشعر به الآن هو ما يسمونه.. التعاسة؟