«دهاة لبنان» .. والفرصة الإنقاذية الأخيرة

TT

في كل دول العالم رجال سياسة محنكون... يعرفون من أين تؤكل الكتف. ولعل الاسم الأشهر في عالم الكياسة والدهاء المفكر السياسي الإيطالي نيكولو ماكيافيللي. ولكن على صعيد ممارسة السلطة الفعلية لمع نجم الكاردينال ريشيليو والأمير تاليران في فرنسا، وأنجبت بريطانيا كثيرين بينهم بالمرستون وديزرائيلي وغلادستون ولويد جورج وتشرتشل. وشهد العالم بأسره لموحد ألمانيا بسمارك... و«داهيتي» الصين شو إن لاي ودينغ هسياو بينغ.

في لبنان، رغم قلة حيلته وضآلة حجمه بالمقارنة بهذه الإمبراطوريات، توجد مجموعة من أذكياء السياسة يستطيعون، إذا شاؤوا، بناء عشر إمبراطوريات وهدمها في غضون بضعة أسابيع.

وهنا، في وارد إبداء الإعجاب، حقاً، والرهان المأمول على نجاحهم في إنقاذ البلاد من «الشر المستطير» ـ كما قال رئيس مجلس النواب نبيه برّي قبل أيام، أستطيع أن أعدّ بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ... الرئيس برّي نفسه، والنائب الحالي ونائب رئيس الحكومة السابق المهندس ميشال المر، والرئيس التنفيذي لحزب الكتائب اللبنانية المحامي كريم بقرادوني. غير ان الخوف كل الخوف بأن يميّع الثلاثة القضايا الاساسية المتصلة بالرئاسة... إذا لم تكن هناك نية مخلصة وملتزمة ببناء الدولة السيدة المستقلة ومؤسساتها.

برّي يلعب الآن، مع تسارع العد التنازلي لانتخاب رئيس الجمهورية، دوراً حيوياً في إيجاد منفذ للمتاهة التي دخلها لبنان بعد انهيار الثقة وتساقط القواسم الوطنية المشتركة وتنامي الهواجس القاتلة... أمام خلفية انزلاق الكيان الصغير إلى مستنقع مجابهة إقليمية كبرى لا طاقة له على الخروج منه.

وكان من قبيل المفارقات أن يحاول برّي، في احتفال ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، لأول مرة منذ أسابيع عديدة أن يتصرف كرئيس مجلس نواب ولو من فوق منبر حزبي (رغم مناسبته الوطنية والإنسانية)... بعدما تصرّف كمحازب يخوض صراعاً سياسياً بينما هو رئيس للسلطة التشريعية و«الحَكَم» المؤتمن على فتح بيت الشعب لممثلي الشعب.

مبادرة برّي القاضية بسحب المعارضة مطلب تأليف «حكومة وحدة وطنية» كشرط مسبق لإجراء انتخابات الرئاسة، خطوة إيجابية جداً تستحق الترحيب. إنها بداية تنفيس للاحتقان... ولو جاءت مربوطة بشرط تأمين نصاب الثلثين لعقد الجلسة، الذي يعني حكمأ الاتفاق على مرشح رئاسي «توافقي»، وهو ما يعني استبعاد النائب ميشال عون كمرشح «جدّي» تدعمه المعارضة.

مع هذا، أحسب أن هذه المبادرة ما زالت بحاجة لترجمة على الأرض، فلا معنى لاية مبادرة توافق من دون:

1 ـ إلغاء الاعتصام العبثي المؤذي في وسط بيروت.

2 ـ استئناف جلسات الحوار الوطني.

3 ـ وقف التحريض المعلن والتجييش المستتر، وخاصة في ضوء التقارير عن التدريبات القتالية الميليشياوية في منطقة البقاع الشمالي... وتسرّب الحقد الفئوي الى مجال ألعاب الكومبيوتر لتحويل الخيال العلمي إلى حقائق مأساوية.

برّي كان في الأساس ركيزة وطنية ورهاناً وطنياً قابلاً للحوار ومقبولاً للحوار. وهو اليوم أكثر من أي وقت مضى «ضرورة» للتلاقي الوطني رغم تراجع موقعه في بيئته الطائفية لصالح قوى غدا لها القول الفصل سياسياً وعسكرياً.

المهندس المر أيضاً مؤهل للعب دور حيوي في منع الكارثة، وهو الذي يلقبه البعض بـ«رجل لكل الفصول». فهو مدين بشقّه دربه السياسي لحزب الكتائب الذي احتضنه وحمله إلى البرلمان، ثم هادن دمشق لفترة، ولكن عندما تبدّلت الموازين وغزت إسرائيل لبنان ورعت انتخاب بشير الجميل رئيساً كان المر ومعه كريم بقرادوني يحيطان بالرئيس المنتخب يوم انتخابه، ثم بعد غياب الجميل واستعادة سورية زمام المبادرة صار من المقربين لدمشق. ومن الغريب حقاً أنه عندما يطلق حليفه ميشال عون «مدافعه الكلامية» ضد رفيق الحريري ـ رحمه الله ـ فيتهمه بالفساد وتهميش المسيحيين والارتهان لسورية... يتناسى أن المر ـ العضو في كتلة «التغيير والإصلاح» العونية ـ كان نائباً للحريري لفترة طويلة من تولي الأخير منصب رئيس الحكومة، أي كان جزءاً لا يتجزأ من «تركيبة» دمشق لحكم لبنان!

على أي حال، قدّم المر لعون في انتخاب المتن الفرعي خدمة كبرى. فقد أهداه مقعداً نيابياً كان يحتله نائب ووزير استشهد اغتيالاً اسمه بيار الجميل... ابن البيت السياسي الذي أطلق المر ودعمه وأسهم في صنع زعامته. وعليه ما عاد المر مديناً لعون بشيء، بل بات من حق المر أن يقول ما قاله على شاشات التلفزيون أخيراً أنه مع ترشيح عون للرئاسة ... «لكن إذا بلغنا اليوم الأخير للاستحقاق الانتخابي الرئاسي من دون وجود فرص لعون فإنني ضد الفراغ ومع التوافق (على شخص آخر)».

ونصل إلى بقرادوني، الذي يعتبره كثيرون المندوب غير الرسمي لـ«تجمع 8 آذار» المعارض داخل حزب الكتائب، فقد كان أحد أركان «لقاء عين التينة» الذي بني عليه «تجمع 8 آذار» في وجه «لقاء البريستول» الذي ولّد «تجمع 14 آذار».

اصلاً كان بقرادوني أبرز منظّري فكرة التحالف الاستراتيجي المسيحي مع الشيعية السياسية في وجه السنية السياسية، وهي الاستراتيجية التي جسّدها على الأرض... أولاً الرئيس إميل لحود ثم شاركه فيها ميشال عون. ولعله الوحيد من قادة تنظيمات «14 آذار» الذي لم يخاصم رئيس الجمهورية أبداً... انطلاقاً من إيمانه بضرورة تجنب إضعاف هذا المنصب بصرف النظر عمّن يشغله. وهو لهذه اللحظة يعتبر أن «اتفاقات الطائف للوفاق الوطني» جرّدت رئيس الجمهورية من صلاحيات أعطيت لرئيس الحكومة... ويجب إعادتها إليه.

بقرادوني، الذي أيّد صراحةً مبادرة برّي وفكرة «الرئيس التوافقي»، ما زال رئيساً تنفيذياً لحزب الكتائب. وما زال الحزب موجوداً حتى هذه اللحظة مع «14 آذار».

هل معنى هذا أن فكرة «الرئيس التوافقي» نضجت؟

وهل لدى برّي تفويض جدي من «حزب الله»، بل ومن دمشق ايضا، بتقديم تنازلات؟ وهل هذا هو السبب في خطاب عون المتوتر... بعدما اكتشف «حقيقة» الحاجة إليه؟