عبد الرحمن عارف.. يوم لعبت القاهرة بمصائر بغداد

TT

لعل الرئيس عبد الرحمن عارف الوحيد الذي مات حتف أنفه، وعلى فراشه بهدوء، من بين رؤوس الدولة العراقية (1921-2003) الثمانية من ملوك ورؤساء. نقول الوحيد ذلك إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما ورد من شبهات حول ممات الملك فيصل الأول (1933)، وأن رئيس مجلس السيادة محمد نجيب الربيعي لم يحسب من تلك الطبقة، وما ورد حول أحمد حسن البكر، بأنه قضى بالسموم القواتل البطيئة، التي اشتهرت بها حقبة صدام حسين، بعد عزله بثلاث سنوات (1982).

ومن المضحكات المبكيات، أنه في يوم سقوط طائرة شقيق عبد الرحمن الرئيس عبد السلام عارف (1966) بين القرنة والبصرة، وقبل اكتشاف مكانها، وردت تعليمات لمركز شرطة منطقتنا بالأهوار للتحري عن الطائرة بين البردي والقصب، وطلب منا مدير المدرسة المتوسطة، جلب زوارقنا للمشاركة في عمليات البحث ولما علمنا أننا من المكلفين بالبحث عن طائرة الرئيس، قلنا ونحن نحبس ضحكتنا: «أحقاً نبحث عن رئيس الجمهورية»؟! وما هي إلا ساعات وأعلن عن اكتشاف حطام الطائرة.

وقبلها أشيع من أن الرئيس عبد السلام أراد تشييد ضريح لمعاوية بن أبي سفيان، وأنه منع المواكب من الزيارة الأربعينية إلى كربلاء، وعندها أرتقى الشيخ أحمد آل شيخ لطيف القارئ الحسيني بالمنطقة، المنبر متشفياً بالحادث، فردد أمام الموكب: «اثنين طارن بالسمه (السماء)، وحدة طيحها الهوى (الهواء)، وواحدة حطت باللوى (لواء البصرة)»، إشارة إلى الطائرتين، اللتين أقلتا الرئيس والوفد المرافق. وحينها أيضاً بث الخصوم وسار على ألسنة العوام «صعد لحم ونزل فحم». غير أن أمر إعادة تشييد ضريح لمعاوية كان مجرد إشاعة، لا صحة لها، مع عدم تنزيه الرئيس المذكور من شحنة طائفية مورست أوان حكمه بهذا الحجم أو ذاك. ويريك تكليف طلبة المتوسطة بالبحث عن رئيس الجمهورية، وقوة إشاعة بناء ضريح لخصم الشيعة اللدود، وما سيره الخصوم على ألسنة العوام أن الدولة كانت مضطربة، ولم يتسلم عبد الرحمن عارف من سلفه سوى نزاعات لا حصر لها.

حقاً، مَنْ لم يحب عبد الرحمن عارف لم يكرهه البتة، فالرجل كان مسالماً مهادناً، لا يضمر كراهية لأحد. تقلد الرئاسة كونه أخاً للرئيس المغدور ورئيساً لأركان جيشه، وخيار مصر الناصرية. كان للقاهرة، ممثلة بأمين هويدي، سفيرها السابق ببغداد ومندوبها للتعزية بوفاة الرئيس، مآرب في تسميته رئيساً. مع أن لرئيس الوفد المصري عبد الحكيم عامر (انتحر 1967) رأياً مغايراً، وهو جلب الضابط الطيار عارف عبد الرزاق الكبيسي (ت 2007) اللاجئ بالقاهرة، بعد فشل انقلابه ببغداد، ليحل رئيساً للجمهورية، إلا ان عبد الناصر حال دون ذلك.

كتب أمين هويدي قائلا: ذهبنا «إلى المطار (ببغداد)، واستقبلنا عبد الرحمن عارف (كان بموسكو)، وكان يبكي بشدة ومنديله على عينه واصطحبناه إلى العربة وعزيناه فاشتد بكاؤه. وهنا قال له عبد المجيد فريد في خبث: اتفضل أركب يا سيادة الرئيس. فتمهل عبد الرحمن في سيره، وكرر عبد المجيد في خبث: اتفضل أركب يا سيادة الرئيس. ودون أن يسأل عن تفاصيل خفت دموعه واختفى المنديل الأبيض وشد من قامته... وركب العربة الفارهة، وتبعناه في عربتنا السوداء المكتوب عليها وفد الضيافة، وأصبح اللواء عبد الرحمن رئيساً» (50 عاماً من العواصف ص 184). وقد برر هويدي هذا الخيار واصفاً الرئيس الجديد بالقول: «كان ... غير ضار» (نفسه، ص 183).

ومعلوم، كان الرئيس الأجدر بهذا المنصب هو عبد الرحمن البزاز (ت 1973)، الحقوقي وصاحب الخبرة والممارسة في الإدارة والساعي إلى حكم مدني، والواضع الأسس لعودة الحياة السياسية الطبيعية، بما فيها حل القضية الكوردية حلا سليما. ويحسب لعبد السلام عارف أنه توصل في أواخر أيامه إلى قناعة بوضع حد للسياسة الاستثنائية بتقليده هذا الرجل منصب رئاسة الوزراء. لكن لا مصر الداخلة في التفاصيل ولا الضباط القوميين يحبذون الأجدر! وآخر كلمة سمعها هويدي من البزاز هي: «مبروك عليكم الرئيس عارف فقد توطد الحكم العسكري».

وهكذا لعبت مصر وأتباعها من الضباط القوميين بمصائر بغداد. ومن قبل كانت إذاعة «صوت العرب»، بصوت مذيعها أحمد سعيد، تتفنن في التحريض والتهييج، سواء كان ضد العهد الملكي أو العهد الجمهوري. فلما أتى مَنْ رغبت فيهم القاهرة من أجل الوحدة العربية تراهم «أقسموا بالعروة الوثقى على الانفصال». قال عبد الناصر لمبعوثه: «لا نريد شيئاً من العراق، مجرد حكم لا يعادينا...»! والسؤال هل كانت رئاسة البزاز تعاديهم!! رحم الله أبا قيس، الرئيس عبد الرحمن عارف، كان عف اليد، سليم الطوية، إلا أن ذلك لا يكفي لإدارة الدولة، ومنع انقلاب أرقط مثل الذي أتى بالحروب والكوارث، وكان أيسر وأسهل الانقلابات.