إلا القليل من الندم

TT

مَن يكتب كثيرا ويحكي كثيرا لا بد ان يخطئ. وان يخطئ كثيرا. وقد كتبت احيانا وانا على غضب. وكتبت احيانا تعميني مشاعر الاعجاب والمحبة. وكتبت احيانا على عجل. وكتبت احيانا بتأثير من آخرين. وكتبت بقناعة تامة وصدق تام، لكن هذا لم يمنع انني كنت على خطأ. لكنني لست نادماً على ما كتبت او قلت الا في القليل. ولا شيء يعذب ضميري ويعكر خاطري في ما قلت، الا بعض ما اقدمت عليه وانا غاضب. ولست نادماً لأنني دفعت الثمن، وكان باهظا وعبئا مستديما، كما حدث يوم اثارتني عقصة عقرب على عظيم الشعر العربي، أبي الطيب. ومنذ ذلك الوقت حكمت على نفسي بعقوبة مؤبدة. فعندما اريد ان آتي على ذكره، اخشى ان اتهم بالممالقة. وعندما اريد ان استشهد ببعض شعره اشعر بالخجل مما تصاغرت. وعندما التقي الاستاذ جان عبيد، وهو احد كبار حفاظي «معجز احمد» ينتابني شعور عميم بالذنب. فاذا قصر اللقاء او طال او جاوز، لا ثالث فيه الا شاعر الأمة الذي اختار اطناب سيف الدولة. فما يعرف احد اسم سيف الدولة ويملأ المتنبي الأمة عصرا بعد عصر.

ولست نادماً الا في القليل.

فالكاتب عقوبته في ذاكرته. وهي العقوبة الاقصى. ان الندم الوحيد الذي يتملكني ويزورني في الليل ويرافقني في مشي الحدائق، هو الندم على ما لم اكتب يوم كان يجب ان اكتب، وعلى ما لم اقل، يوم كان يجب ان اقول. الندم على لحظات الخوف ولحظات الجبن ولحظات التراجع. ولا يريح ضميري ويهدئ خاطري ان الانسان لا يستطيع ان يكون في كل المواقف وكل القضايا. فالكاتب شاهد على قضاياه والصمت زور مثل الكذب. والموقف لا يتخذ من اجل الآخرين بل من اجل الذات. واقسى الاسئلة التي اتلقاها هي «هل طلب اليك ان تفعل كذا»؟ ويخامرني شعور بالنقص لأن احدا لا يطلب مني شيئا كأن امري ليس مهماً. وقد فقدت صداقة حاكم دولة احبها كثيرا، لأنني بعد اربعين عاما وجدت انه اخطأ في قرار سياسي فكتبت انه اخطأ. وبدل ان يعتبر انني انتقدت بمحبة وقناعة، بعث يسأل «هل طلب اليه ذلك»؟ وانا متكدر طبعا لفقد صداقة رفيعة، لكنني لست نادما على الاطلاق. لقد قدمت اخلاصي لنفسي وصدقي معه، على مسايرتي لقرار «لا يليق».

لم اشعر في لحظة من لحظات عمري بأن لكلمتي تأثيرا ابعد منها او من صاحبها. ليس لي دور ادعيه ولا نفوذ ادبي ازعمه. ويضحكني الذين يفعلون. واشعر بالامتعاض من الادعياء حتى لو صدقوا. وأحس بمهانة شخصية كلما ادعى كاتب حجما يزيد على طوله الشخصي. واكثر ما يؤلمني ليس ادعاؤهم، مهما صدق او فرغ او رنَّ، لكنني مقهور بصمت الكتاب عن المواقف والقضايا الانسانية التي نمر بها كل يوم.

هناك طبقة واسعة من الكتاب تنسى من اين اتت والى اين ستمضي. ولذلك لا تتعاطى القضايا الصغيرة كالناس والآلام والعذاب والفقر وسوف يظل الألم البشري، بكل ألوانه القاتمة او القانية، في كل مكان من الارض، هو همي اليومي كما كان همي يافعا. ولست نادما الا على صمتي.