مؤلف يقتل بطله

TT

يتخيل كتاب الروايات «البوليسية» «أبطالا» وشخصيات خارقة لا تلبث أن تصبح أكثر شهرة منهم. وغالبا ما يتحول النزاع بين المؤلف والبطل المتخيل الى صراع. وعندما اكتشف آرثر كونان دويل أن شرلوك هولمز أصبح أكثر أهمية وشهرة منه سارع الى «قتله». وقامت الدنيا في بريطانيا. وانهالت رسائل الاعتراض، فسارع الى «إحيائه»، وأعاده الى مكتبه الذي لا وجود له، في بيكر ستريت. وعندما سئمت أغاثا كريستي من المفتش بوارو، عمدت أيضا الى قتله. ورفض ملايين القراء حول العالم أن يروا بطلهم المضحك وقد فشل أمام أعدائه.

ولي تجربة متواضعة جدا في هذا الحقل. فقد كتبت لـ«الأسبوع العربي» بداية السبعينات مسلسلا «بوليسيا» مستوحى يومها من صراع الحرب الباردة. وكان المسلسل طبعا بتوقيع مستعار، لأنه كان ممنوعا علينا في «النهار» أن نعمل في أي مكان آخر. وكان راتبي الشهري في «الأسبوع العربي» لقاء عمل أسبوعي من منزلي يزيد بثلاثين في المائة على راتب «النهار» والدوام اليومي. لكن رئيس تحرير «الأسبوع» ياسر هواري بدأ، في ما بدأ، تقليدا جديدا في الصحافة اللبنانية، رفع بموجبه مكافأة «المساهمين» الخارجيين، من دون الالتزام بتعويضاتهم. كما اعتمد مقياسا، المادة الصحافية نفسها وليس اسم صاحبها. وهكذا اجتذب عددا كبيرا من الصحافيين العاملين في مؤسسات أخرى.

في أي حال، يبدو أن المسلسل لقي اهتماما في عدد من العواصم العربية، ولم يبلغني رئيس التحرير بذلك. وعندما نفدت المخيلة بعدما نقَّلتُ «البطل» في كل المدن التي أعرفها، قررت أن أرسل البطل الى السجن، على ما أعتقد. أو ربما أعدته الى روسيا عند ليونيد بريجنيف، فلم أعد أذكره. وما أن صدر العدد حتى انهالت الاحتجاجات من مديري مكاتب «الأسبوع» في العالم العربي. واتصل بي ياسر هواري متسائلا: «ماذا حدث؟ ماذا فعلت؟». وقلت إنه لم تعد لدي مدن أرسل إليها البطل، فأجاب: «دّبر حالك. لقد سببت لي مشكلة مع مديري المكاتب»؟

وسارعت أعيد «البطل» من موسكو. فقد كان الراتب يغطي الكثير من سهرات بيروت ومطاعمها. ولكنني لم أرد أن أصبح كاتبا «بوليسيا». فقد كنت أعتقد انه نوع غير لائق من الكتابة. والآن أقرأ أن آرثر كونان دويل كان أيضا يعتبر الرواية البوليسية عملا لا يليق بموهبته، ولذلك أراد الانتقال الى الكتابة الأدبية، لكنه اكتشف أنه أصبح أسير شرلوك هولمز.

وربما لم يكن وحده بين المبدعين الذين لم ترضهم أعمالهم. فقد صنع الرحابنة طوال نصف قرن الشعر والمسرح والموسيقى في لبنان. وفوجئت ذات مرة عندما قال لي منصور الرحباني «لم يكن هذا ما نريد. كنا نحلم بوضع الموسيقى الكلاسيكية».