نوري السعيد والطفل

TT

مما ذكره شكسبير في مسرحيته السياسية «يوليوس قيصر» ان حسنات الانسان تدفن معه، ولكن مساوئه تظل تذكر بعد موته. لكن هذا القول الحكيم لم ينطبق على نوري السعيد رحمه الله. فطوال حياته ظل الناس يهاجمونه ويذكرون سيئاته، ولكنهم الآن وبعد ان قتلوه أخذوا يتذكرون أفضاله. حيثما تذهب في هذه الايام تسمع هذا او ذاك ممن عاصر جيله أو قرأ تاريخه يروون الكثير من مآثره وحسن أفعاله.

لا نريد أن ندخل هنا في مناقشة أفعاله أو مواقفه، ولكننا نود أن نتذكر منه رحابة صدره واستعداده للمفاكهة.

في 1948 خرج من الحكم وسلم البلاد لصالح جبر الذي وقع مع بريطانيا معاهدة بورتسموث التي عارضها الشعب العراقي في مظاهرات صاخبة راحوا يرددون فيها بسخرية «نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها».

أخيرا قبرت المعاهدة وأصبحت في ذمة التاريخ، ولكن أهازيجها الشعبية ظلت عالقة في الاذهان كجزء من التراث السياسي, «نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها». من الواضح ان هذه الكلمات كانت ترمي الى التأكيد على أن نوري السعيد كان هو الحاكم الفعلي. ولم يكن صالح جبر غير صنيعة بيده. شاعت الأهزوجة في العراق، وراح يرددها الكبار والصغار، في المقاهي والمدارس وحتى في رياض الأطفال. وبالطبع سمع بها نوري السعيد من مصادره الخاصة.

اعتاد الشيخ فرحان العرس الذي كان يمثل لواء العمارة في المجلس النيابي أن يقيم حفلات دورية في بيته، او ما كان يسمى بالقبول الرجالي. وبصفته نائبا في المجلس ومن كبار رؤساء القبائل ، دأب كبار الساسة و الادارة على حضور حفلاته وقبوله. كان من بينهم ذات يوم نوري السعيد نفسه. سمع طفل صغير، واحد من أحفاد الشيخ فرحان العرس بأن نوري السعيد المذكور في تلك الهوسة، قد حضر الى الحفلة وكان جالسا فيها. فهزه الموقف. راح ينشد ببراءة الأطفال تلك الأهزوجة الشعبية، نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها... نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها. سمعه ابو صباح فنادى عليه وامسك به، «إش قلت؟ قول اش قلت؟ سمعنا!» ارتبك الطفل وحاول النجاة من قبضة رئيس الوزراء، ولكن رئيس الوزراء لم يفك عنه. «يا الله سمعنا أش قلت؟» تدخل الشيخ وشجع حفيده على ان يعيد ما قاله. ففعل. «نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها». عاد نوري السعيد فأمسك به وقال: «منو هو القندرة؟ تعرف منو القندرة؟» رفع الطفل يده الصغيرة مترددا ثم أشار بإصبعه الى وجه نوري السعيد وقال: «انت!» غص نوري السعيد بالضحك وقبل الطفل من وجنتيه واحتضنه بين ضجيج الحاضرين وضحكهم واستئناسهم.

أيام وفاتت، ويا من يرجعها.