ساركوزي اليعرُبي!

TT

يجوز القول إن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ترك الى لقائه الأول بكل سفراء فرنسا لدى دول العالم يوم الاثنين 27/8/2007 امر تحديد الدور الجديد لفرنسا المتجددة في العالم. ونجده من خلال عبارات اوردها في حديثه الى السفراء، يتطلع الى حضور فاعل في القضايا العربية الشائكة سواء من حيث دعوته الى جدولة الانسحاب الأميركي والبريطاني من العراق ورفض قيام «حماستان» في غزة وصولاً الى استعداده لحوار مع الحكم السوري.. إنما شرط ان يتصرف هذا الحكم بشكل يتيح خروج لبنان من الأزمة التي يعيشها والتي يلقي المجتمع الدولي وزر استمرارها وتعقيدها على الحكم السوري ومؤيديه من الأطياف السياسية والحزبية في لبنان وبالذات «حزب الله» و«حركة امل» وبعض القيادات المسيحية والدرزية المعارضة.

في هذا اللقاء بدا ساركوزي واضحاً في ان الرئيس الفرنسي القوي هو الذي يستقوي بالعرب من الخليج الى المتوسط. وبهذه الرؤية كانت زيارته الاولى الى اميركا البوشية يوم السبت 11/8/2007، والتي سيتبعها بزيارة ثانية بعد مشاركته في اعمال الدورة العادية للجمعية العمومية للامم المتحدة هذا الشهر. وفي نهاية الخريف، يحط الرحال في الصين حيث «أم الدول الكبرى» مهتمة بالتنمية والاقتصاد وغير معنية بالحروب والإيديولوجيات. كما ان بعض الذين سبقوه إلى «الإليزيه» قصر الرئاسة الفرنسية العامر بالحضور العربي وبالذات في العهد الشيراكي يستقوون احياناً ببني غسان وبني قحطان. فقد كان الرئيس السابق جاك شيراك مسكوناً بهاجس الاستقواء بالعرب انما من خلال منظومة تكون لفرنسا الكلمة العليا فيها، ومن اجل ذلك نراه عزز شأن الفرنكوفونية وارتأى عقد القمة التاسعة في بيروت للفرنكوفونيين، وذلك لأن العاصمة اللبنانية على المتوسط شأنها شأن دول كثيرة في مشرق الأمة ومغربها من سورية الى مصر الى فلسطين الى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وهذا يعني ان يكون لفرنسا اكثر من موطئ القدم سياسياً ومعنوياً في هذه الدول.

وإلى ذلك ان الانعقاد في بيروت كان خدمة استثنائية من جانب الرئيس شيراك لصديقه الرئيس رفيق الحريري، وكان اشارة كثيرة الوضوح تتعلق بحرص شديد من فرنسا على عرب المتوسط وبقدر الحرص نفسه على العلاقة الطيبة مع دول الخليج. وهنا نستحضر ما تضمَّنه البيان الصادر عن القمة (من 16 الى 18 اكتوبر/ تشرين الاول 2002) بعد انتهاء اعمالها حيث ان الرؤساء الخمسة والخمسين أو من يمثِّلهم ابدوا اهتماماً ملحوظاً في شأن إعمار بيروت واعتبروا المبادرة العربية المعروفة ايضاً بـ«مبادرة عبد الله بن عبد العزيز» الاطار الأفضل للسلام في المنطقة، وان الأولوية للقانون الدولي في موضوع العراق.

قبل شيراك كان الرئيس فرنسوا ميتران مسكوناً بهاجس الاستقواء بالعرب، ومن خلال منظومة ايضاً يلتف حولها اهل الحكم وأهل المعارضة. ونعني بأهل الحكم الذين هم ثوريون، كما نعني بأهل المعارضة تلك الاحزاب التي تغرد في الفضاء السياسي اليساري، وهم كثرة في المنطقة العربية قبل ان تتفتح براعم التوجهات الاسلامية والأصولية وتلتصق بتنظيمات تنتسب الى هذه التوجهات تهمة العنف للبعض والإرهاب للبعض الآخر. ورأى ميتران بحكم عقيدته السياسية كونه رئيساً لـ«الحزب الاشتراكي» ان تكون الاشتراكية الدولية هي الخيمة التي تحقق لفرنسا الحضور القيادي، الذي يتطلع اليه ضارباً في الوقت نفسه بحجر آخر غير حجر الاستقواء بعرب المتوسط، وهو التفاف الحكومات الاشتراكية الأوروبية حوله وكذلك حكومات وأحزاب اخرى في مناطق عدة من العالم. لكن تطلعات شيراك كانت افضل، لأنها ابعدت الحذر من نفوس الحكام في حين ان ميتران ابتكر «الكوكتيل» الذي اشرنا اليه وهو «الاشتراكية الدولية» الأخت من والد آخر لـ«الأممية الشيوعية» التي هي تجمُّع الماركسيين في العالم.

ها هو الآن الرئيس نيكولا ساركوزي، يعلن على الملأ امام سفراء بلاده الى دول العالم، انه هو الآخر مسكون بهواجس الاستقواء بالعرب عموماً وعرب المتوسط بشكل خاص، تشجعه على ذلك الوقفة المتميزة معه من جانب الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي لبلاده في دول المتوسط مكانة كبرى، والذي خصَّه بزيارة مارس خلالها ساركوزي في قصر الإليزيه، وكذلك في مقر اقامة الملك كل اللياقات آملاً من وراء ذلك استمالة القيادة السعودية الى فرنسا، ما دام رئيسها الجديد يعرُبي بامتياز. أما الصيغة التي يراها ساركوزي فإنها اكثر تواضعاً من صيغة السلف شيراك ومن قَبْله ميتران، حيث انه يتطلع الى «اتحاد متوسطي» لا يكون بديلاً عن تجربة شبه اتحادية اخرى تُعرف بـ«مسار برشلونة» الذي يضم 27 دولة أوروبية.

وما يلفت الانتباه هو حرص ساركوزي الذي لم تكن انقضت سوى بضعة اسابيع على ترؤسه، على انجاز مشروعه الخاص به الذي يريد إتمامه لكي يستقبل من موقع رجل أوروبا القوي قمة «الاتحاد الأوروبي» التي ستستضيفها فرنسا في تموز (يوليو) 2008 بحكم دورية الانعقاد السنوي، وهو لهذا الغرض نراه اختار الجزائر لتكون المحطة الأولى في زيارته الرسمية الخارجية الأولى ومنها انتقل الى تونس. وعلى رغم انزعاجه اشد الانزعاج لأن الجولة لم تكتمل بزيارة المغرب، لأن الملك محمد السادس طلب ارجاءها احتجاجاً غير معلن على عدم البدء بزيارة مملكته اولاً أو تونس كحل وسط انما ليس البدء بالجزائر، إلاَّ ان ساركوزي مضى الى النهاية وبخطوات ماراثونية من بينها استضافة «مؤتمر الحوار» بين اطراف المعضلة اللبنانية في فرنسا بتزكية سعودية ـ مصرية ـ أردنية للمحاولة ودعم غير مسبوق لإنجاحها وحذاقة وحصافة من جانب رئيس الدبلوماسية الفرنسية برنار كوشنير الذي اصطاده ساركوزي من السرب الاشتراكي لتأكيد المنحى اليعرُبي للعهد الساركوزي.

ومن بين الخطوات كذلك دغدغة كلامية للعنفوان الجزائري والمشاعر التونسية حيث قال «كوني قمت بأول زيارة خارج أوروبا الى الجزائر يحمل معنى كبيراً، ويرمز الى العلاقات الوثيقة والكثيفة خصوصاً انني زرت الرئيس بوتفليقة باستمرار منذ العام 2002» و«ان الرئيسين بوتفليقة وزين العابدين بن علي هما سفيرا فكرة الاتحاد المتوسطي وباندفاع.. ».

من بين الخطوات ايضاً اقتحامه للمشكلة المتعلقة بالممرضات البلغاريات وإنقاذه لهن من حبل المشنقة او السجن المؤبد في ليبيا، وذلك بالتعاون مع زوجته سيسيليا الطامحة الى أن تكون هي ديانا الحية مع حلول الذكرى العاشرة لرحيل الأميرة ديانا الى الآخرة مع صديقها دودي الفايد، وما يقال من أن رحيلها كان قتلاً مبرمجاً وليس مجرد حادثة سير عادية في باريس، وان السبب كان انها حامل، وان ملك بريطانيا المقبل، بافتراض أنه سيكون الأمير وليم ابنها من مطلقها الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا الحالي، سيكون له أخ مسلم يحمل اسم محمد الفايد تيمناً باسم جده الذي امتلك درة متاجر بريطانيا (محلات هارودز) ولذا لا، ولن ينسى مجتمع الحكم البريطاني فِعْله هذا.

هل تثمر جهود ساركوزي على نحو ما يتطلع وبالسرعة القياسية لكي يترأس اوروبا العام المقبل، وهو رجلها القوي في غياب الشأن البريطاني لأسباب موضوعية؟

الإجابة عن ذلك رهن نجاحه في ترطيب الخواطر المغربية وبلسمة الجراح الفلسطينية وامتلاك الورقة الليبية أو اجزاء منها، بما يعزز أمور فرنسا المالية والصناعية. كما أن الاجابة رهن المخاوف اللبنانية واستعادة سورية التي تزداد ابتعاداً عن فرنسا بعدما كانت تراها كما لبنان بأنها الأم الحنون. وهو اذا كان لن يسعى جاهداً من اجل انجاز ما نشير اليه، فإن عيني «فرنْساه» ستبقى كما عيون فرنسا شيراك وفرنسا ميتران شاخصة على العرب يريد كل منهم الاستقواء بهم على اساس ان ذلك يعزز الشأن ويجعل الحضور الفرنسي فاعلاً في المجتمع الدولي. لكن ذلك لا يكفي. عسى ولعل يستدرك الرئيس الثالث اليعرُبي نيكولا ساركوزي او «ساركوزي العرب» كما لورنس الانكليزي اليعربي من قبل، ما لم يفعله الاول والثاني.. وعلى الوجه الأكمل.