السودان: الإنقاذ ثورة تؤرخ لآخر الانقلابات

TT

حسمت اللغة الفارسية أمر الاختلاف بين الثورة والانقلاب في إيران، بأن جعلتهما شيئا واحدا، فصارت أكبر ثورة شعبية إسلامية عرفها التاريخ الحديث انقلابا. رغم أن جوهر الفرق المعلوم بين الانقلاب والثورة، هو في المسافة بين التحرير والحكم، إذ أن الثورة تهدف إلى تحرير الناس، أما الانقلاب فيهدف إلى حكمهم. وتعرف كل المراجع السياسية أن الثورة يقودها الشعب فيتبعه الجيش، والانقلاب يقوده الجيش فيتبعه الشعب. كما تهدف الثورة لتغيير قواعد بناء السلطة لتكون الكلمة الأخيرة فيها للشعب، بينما يعمد الانقلاب إلى تغيير أشخاص الحكام مع إبقائه للقوة معيارا للحكم والسلطان.

ويبرئ العارفون الجيش السوداني من كل الانقلابات والثورات التي وقعت، ويحيلون فكرتها ومبادرتها إلى قوى مدنية وحزبية، اتخذت بتقديراتها القرار وحددت له ساعة الصفر. لهذا تتخالط التعريفات وتتعارض المعاني، التي لا يمكن تكذيبها جميعا. ففي كل انقلاب شبهة ثورة، وفي كل ثورة دسيسة انقلاب. والتاريخ يحدث بحقائق الكيد السياسي، الذي ختم سيرة كل تجربة ديمقراطية بانقلاب بإيعاز مدني، يقدم فيه السياسيون الجيش كطليعة متحفزة لحماية البلاد من كل احتمالات الفوضى، التي وسمت بعض تصرفات الساسة واضطراب السياسات، وشكلت نهايات كل الحقب الديمقراطية، أو هكذا كان التبرير.

وتواجه القوى السياسية السودانية، الساعية للتغيير الديمقراطي، مأزقا أخلاقيا وعمليا في تعاطيها التاريخي مع الجيش. فهي، مهما بلغ صدق توجهها الديمقراطي، لا تستطيع النجاة من فكرة المحاولة أو المراودة، ومن لم يغز منها، فقد جهز غازيا، ومن لم ينجح في انقلاب، فقد سعى له، ومن فشل في تحريك الجيش القومي، فقد جيش جيوشه الخاصة، التى شهدت كل دول الجوار معسكرات إعدادها وتدريبها ومحاولات انقضاضها على السلطة.

وفي الوقت الذي يدعو فيه قادة هذه القوى للتداول السلمي للسلطة، يتطرفون في مواقفهم من مشاركة الجيش، حتى لا يقعون علنا في تناقض أخلاقي يفقدهم المصداقية، اعتمادا على قصر ذاكرة الناس، التي تتجاوز بالعفو هفواتهم. وهم لا يستطيعون أن ينكروا الدور السياسي الذي يضطلع به الجيش في خلق الأنظمة أو إطالة عمرها. ولكن ذلك الارتباط أو الإنكار لا ينفي ضرورة البحث عن سياقات وأساليب تمكِّن الجميع من السيطرة على مواقفهم وإزالة ما علق بها من شبهات التناقض بالتثقيف والتدريب، الذي يعالج خطأ الماضي والحاضر بإعلاء قيمة المستقبل.

ولا يعفينا هذا التحليل العام من فهم التحول الديمقراطي في سياقه التاريخي، وضروراته الحاضرة، التي تلح على وجوبه أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن العنف صار يمنع لغة الحوار، ويزيد من وتائر الاحتقان، ويشكل مداخل الوعي بالحقوق وتحصيل استحقاقاتها. وما يجب تأكيده هنا هو أن الديمقراطية وحدها ليست ضمانة ضد العنف كما بينت حقب الديمقراطية الماضية، التي لم تطف نارا للحرب في الجنوب، ولم تخمد بوادرها في دارفور، رغم أنها وسعت «حيز السلام» السياسي، وإنما ضماناتها في تأسيس آلياتها، وتعزيز بنيانها، وترسيخ مؤسسيتها حتى يمكن لها أن تتيح معادلات أكثر مواتاة للسلام الأهلي والفعل الديمقراطي.

فالعنف صار ينتظم السياسة السودانية منذ أمد ليس بالقصير، وان ظل يتفاقم بمؤشرات صاعدة عبر الأنظمة المختلفة. ساعدت عليه العلاقة الطردية التي نشأت بين زيادة التعليم والوعي بالحقوق، ومهدت له علاقات توزيع السلطة والثروة المختلة بين المركز والأطراف، وأوجدته مطالب متناقضة باستحقاقات العدالة، وضرورات الوفاء لمبادئ المساواة. تناقض أوجد حالات جديدة للعنف لم تكن مألوفة، ولو أخذنا بالمظاهر العامة للعنف السائد الآن سنجد أنه لم يعد بعضه موجهاً بفكر سياسي أو ضد فكر سياسي، وإنما صار يتعاظم بمواجهة مواطنين عاديين لا علاقة لهم بالسياسة أو الصراع حول مكاسبها.

وفي خضم هذه الظواهر الجديدة، يتحدث الناس في السودان، كثيرا، عن التحول الديمقراطي في ظل حكومة لم تدع، ولو لمجرد الاستهلاك السياسي، أنها كذلك، إذ حصرت مهمتها في نفرة «إنقاذ» طال، في تقدير البعض أمده. بل هي لم تنف صفة الشمولية، وإن قبلت بفكرة السير في الطريق المؤدية إلى التغيير السياسي، والتحول الطوعي إلى الديمقراطية. وتلزمها اتفاقيات وترتيبات دستورية بعدم الحيدة عن هذا الطريق. وقد بدأت بالفعل خطوات واسعة باتجاه التغيير، رغم ما يكتنف عقول البعض من الشك، أو يمدد شهوة البعض الآخر في التردد والخوف من التغيير.

وقديما قال المفكر بيتر دركر: «إن لم تستطع التغير فقف وراء الآخرين». لأن التغير أساس استمرار الحياة. وفي تقدير فيليب كوتلر أن التغيير يتم بين ليلة وضحاها، «فإذا لم تكن مستعداً للتغير، فالأفضل أن تعترف بالهزيمة». ولا نريد للمتشكك أن يقف وراء الآخرين، ولا يستقيم أن نقبل لأحد بالهزيمة في مسيرة سعينا القاصد لتحول ديمقراطي يستوعب طموحات وتطلعات الجميع. فالمستقبل الذي ننشده لا يهدد بانهيار أحلام المتفائلين ولا يعزز قنوط المحبطين.

وبالقطع ليس مجال هذا المقال المساهمة في المناظرات الساخنة حول مشروعية هذه الأحلام أصلاً، أو ردع مبررات المتشائمين. فهناك من يضع المسألة بقناعات مستدركة عندما يؤكد استحالة بناء ديمقراطية في ظل حكم عسكري أجهض تجربة ديمقراطية. وعلى هذا المنطق يمكن أن نستجيب لتخذيل سبق حول امكانية تحقيق سلام في ظل أكثر الأنظمة قدرة على الحرب. فإن كانت الإجابة تبدأ بسؤال آخر بحق من يقول به، وهو أنه لم يكن من الممكن بناء سلام حقيقي أو ديمقراطية حقيقية في ظل نظام ضعيف ومختلف غير مؤتلف، يتعين علينا أن نطرح السؤال مُجهزاً بالإجابتين معاً، وهو إذا كان بناء السلام ممكنا، فإن الديمقراطية هي الأخرى ممكن خروجها من صلب نظام يعلن صباح مساء استعداده للتواضع على أقدارها.

ولهذا، فعلينا أن نفكر في هذه الإشكالية بعناية، ونتجاوب معها بعقلية تترفع عن مقعدات الغبن وتتجاوز مررات الاحتقان. فالذين يتشككون في نوايا التحول الديمقراطي وهم خارج دائرة الحكم، يشاطرهم بعض من هم داخل هذه الدائرة من رغبة في الاستمرار في تحكيم معايير الإقصاء القديمة. فالذي لا ينفعل ايجابا بإمكانية التغيير وفرص التحول، يلزم نفسه طائعا برغبات من يرفضون هذا التغيير ويعملون على تعطيل سنة التحول.

فهل يملك لنا الذين لا يريدون طرق باب النظام القائم مدخلا للديمقراطية ما يمكن أن نعرِّض أنفسنا له من احتمالات؟ والسؤال لا يستجدي إجابة لأن إشاراته مفترضة، رغم أنه من الناحية المنطقية له قيمة مزدوجة. أولاها؛ أن الديمقراطية صارت ممكنة دون تضحيات ثورة شعبية، أو جهاد مدني، ودون أن نعرض أحدا لعنف الدولة، وثانيها؛ إمكانية الترتيب الهادئ والواعي لرسوخ واستدامة الديمقراطية وحمايتها بإحسان التطبيق. لكنها لا تستطيع إنجاز ذلك وحدها من دون أحزاب وقوى مجتمع تلتقي مصالحها مع هذا الهدف.

وتنطوي القيمة المزدوجة للتحول الديمقراطي القادم في حقيقة أنها المرة الأولى التي يخرج فيها نظام من رحم آخر تدرج ليقربه، وسيؤسس بذلك لبداية تداول لم تسعف فصول التاريخ الماضيات السياسة السودانية على انجازها. فقد عانت القوى السياسية، ممثلة في الأحزاب، صعوبات جمة وقفت حائلاً دون بنائها كمؤسسات تمتلك استقلالية قرارها الداخلي والخارجي، وتمارس نشاطها السياسي والثقافي والاجتماعي وفقاً لذلك. وهذه الظروف تسببت فيها عوامل عديدة؛ أهمها انقطاع تراتبية التداول والتواصل، التي لا يجوز أن تبقى لأنها تشكل عائقاً دون تحقيق شروط تكامل الإرادة الوطنية لإنجاز الإصلاح السياسي، الذي يمكن للاستقرار والتنمية.

* كاتب وأكاديمي سوداني