سقوط إمارة بن لادن!

TT

اشتعلت طرابلس، يوم أول أمس، احتفالاً بجنود الجيش اللبناني العائدين من مخيم نهر البارد، مكللين بانتصار دفعوا ثمنه غالياً. وبينما كان الأهالي يعانقون الجيش ويرشون آلياته بالأرز والورود، ويهللون له ملوحين بالأعلام اللبنانية، وهو يعبر شوارع المدينة، كانت صور الشهداء التي تزينت بها الدبابات إضافة إلى وجود آلاف في المستشفيات، تشي جميعها بالكلفة الباهظة لحرب تنام على أبعاد خطيرة، وتحذّر من مغبة الوقوع في غيرها.

فالالتفاف الشعبي الهائل من شمال لبنان إلى جنوبه حول الجيش هو حقيقة ناصعة، ووجود إسلاميين متعاطفين مع «فتح الإسلام»، لا يستهان بعددهم، اضطروا للانكفاء وإظهار غير ما يبطنون، تحت وقع الضربات القوية للجيش، هو أمر يصعب إغفاله أيضاً. وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وشعوبنا مع الماشي، وأنصار المشروع الإسلامي المتطرف قد قمعوا، ولو إلى حين، فقد أصبح السؤال مشروعاً اليوم، بعد أن انتهت المعركة التي كانت تنوي سلخ شمال لبنان عن الوطن، وتحويله إلى إمارة إسلامية ـ قاعدية، ماذا لو كان التنظيم نجح في مخططه، وصار لأتباع بن لادن في هذا الشرق دويلة؟ أما كنا سنرى الأفواج المؤيدة تتقاطر من أنحاء الشمال اللبناني، لا بل من انحاء المنطقة الإسلامية بأسرها، صارخة بالنصر المبين، وبعودة الخلافة، وانطلاق الدولة الإسلامية من مخيم نهر البارد.

تبدو الفكرة سوريالية، لكن تحقيقات الجيش اللبناني تؤكد، حسبما قال ضباطه، علناً أو تسريباً، ان «فتح الإسلام» كان على تواصل مباشر مع جماعات للقاعدة، وان الإمارة الإسلامية كانت حلمهم الذي خططوا له، ووضعوا الآليات لتنفيذه، بإرباك لبنان بأسره، ومن ثم اقتطاع إمارتهم منه. فالبلد المستضعف والمستنزف بتجاذبات حادة بين شيعته وسنته، والمنتهك من إسرائيل في جنوبه، والمشتهى سورياً من بقاعه وشماله، لهو ثمرة نضج قطاف أطرافها.

ثلاثة أمور يبدو أنها أجهضت المشروع القاعدي الخطير شمال لبنان. أولها، مهاجمة الشقق السكنية التي كان التنظيم يسكنها سراً في مدينة طرابلس، صباح 20 مايو الفائت، مما شكل ضربة استباقية لم تتح له الوقت لتنفيذ خططه، وثانيها، انفضاض الحلفاء اللبنانيين عن التنظيم، خوفاً من الجيش أو تعاطفاً مع قتلاه لا ندري، وترك «فتح الإسلام» مكشوفاً بلا غطاء محلي، فبدا وكأنه حركة منبوذة، ومستوردة، فيها الباكستاني والشيشاني واليمني والسعودي والسوري والفلسطيني، دون اللبناني الذي يفترض ان يكون عموده الفقري. أما الأمر الثالث والأهم، فهو قرار الجيش خوض معركة قتالية، للمرة الأولى منذ نشأته على ما نعلم، وهو ما كان يستبعده التنظيم بالتأكيد، وجهات غيره. «فطبيعة المخيم القديم الوعرة، ومسالكه الضيقة ومخابئه وأنفاقه، تجعله عسيراً على الجيش الصيني، فما بالك، بالجيش اللبناني»، كما قال لنا احد قادة تنظيم «فتح» الذين شهدوا جزءاً من الحرب داخل البارد. وكان يتساءل حينها مستغرباً: «هل حقاً هذا الذي أرى؟ وهل هو الجيش اللبناني الذي يضرب كل هذه النيران؟

الشيخ محمد الحاج من «رابطة علماء فلسطين»، الذي شارك مباشرة في المفاوضات، كان يقول بصوت خفيض أثناء المعارك، خوفاً من أن يعرف قادة فتح الإسلام رأيه، ويتوقفوا عن إجراء مفاوضات بوساطته: «لقد ضيع التنظيم البوصلة كلياً، وجاء إلى ارض لا يمكن ان تحتمل مشروعه».

قلة معدودة من اللبنانيين بقيت تقاتل في البارد. وبحسب من كانوا في الداخل، فإن الغالبية اللبنانية، حلقت الذقن، ولبست الثياب الإفرنجية، وخرجت مع المدنيين الهاربين، وكأنهم شعروا أن المسألة لم تعد تعنيهم. واليونيفل الإسلامي المتعدد الجنسيات الذي أراده شاكر العبسي شمالاً، ليعادي اليونيفل الدولي جنوباً، انسحبت كتيبته اللبنانية، كالشعرة من العجين، عملاً بمقولة «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب». ولم تفعل الأممية الإسلامية فعلتها هذه المرة، مما أمن للجيش اللبناني غطاء وطنياً شبه كامل، كان من يشذ عنه يعتبر عاقاً وخارجاً عن الإجماع. والكلام عن عتب شديد من نساء مقاتلي «فتح الإسلام» اللواتي خرجن مؤخراً من المخيم، لجهات لبنانية كانت توالي التنظيم، وتخلت عنه له ما يبرره، وإلا فكيف تتخيل غرباء يسرحون ويمرحون في لبنان ولا سند محلياً لهم.

وللإيضاح فنحن هنا لا نشير إلى «تيار المستقبل» الذي وجهت له أصابع الاتهام من بعض الأطراف. وما نريد قوله إن السلفيين الجهاديين، منضوين تحت لواء حركات أو أحزاب أو حتى كأفراد عاديين، باتت أعدادهم تتزايد بشكل ملحوظ. وهؤلاء لهم أجواؤهم المغلقة، وحلقاتهم ومدارسهم وعلماؤهم ودروسهم الخاصة. ويقدر د. رضوان السيد عدد الشبان الفلسطينيين واللبنانيين الجهاديين الذين تتداولهم أطراف عدة، بألفي شخص. أما أولئك الذين قد يلحقون بهم، لو تهيأت ظروف مواتية، فنتصور بأنه يصعب حصر عددهم. وأي زائر لمناطق تعتبر أعشاشاً للتطرف في طرابلس مثل التبانة أو القبة أو أبي سمراء، يمكنه أن يلحظ مظاهر تشي بظاهرة واسعة الانتشار، ولو وسعنا الدائرة إلى منطقتي عكار والضنية، لأصابنا الهلع. والمداهمات أكدت أن لبنان كله تغوص بعض مناطقه ومخيماته في حالات جهادية لا يمكن نكرانها. وما لا يحب الاعتراف به السياسيون أن الانتقال من حيز التفكير الجهادي إلى إطلاق النار لا يحتاج لأكثر من قطع شعرة معاوية. وبالتالي فإن على السياسيين اللبنانيين أن يفهموا، خاصة منهم الذين يعشقون تحويل المال العام إلى جيوبهم، أو توظيفه لمحاسيبهم، ويصبحون ويمسون على شعارات طائفية، أن تفقير بعض المناطق، وضخّ الفئوية، يمكن أن ينسف وجود البلد عن بكرة أبيه.

وطالما أن العرب قد انقسموا بين من يريد أن يهادن إسرائيل ويرفع لها الراية البيضاء من دون أن تعطيه شيئاً ومن يريد أن يقاتلها ولو بتحويل جسده إلى قنبلة يفجرها في أخيه بعد أن سدت في وجهه الحدود، فإن هذه الفوضى ستبقى تتعاظم وتعالج بالمهدئات. فلبنان ليس جزيرة في المريخ، وإنما جار لإسرائيل. وشاكر العبسي، مؤسس «فتح الإسلام» فلسطيني، أولاً وأخيرا، ومقاتل أراد تحرير فلسطين منذ السبعينات. وما فعله اليوم هو استعارة آيديولوجيا جديدة، قاعدية هذه المرة، ليصل عبرها إلى فلسطين، بمقاتلين مؤمنين وأشاوس بعد أن تراجع العلمانيون الفتحاويون عن المشروع النضالي. هذا ما قاله العبسي صراحة قبل اندلاع المعارك. ونعتقد أنه كان مجنوناً ومتهوراً وحالماً، لكنه كان صادقاً في ما يريد، فهل لهذه المشكلة من حل؟

[email protected]