الحجاب التركي.. والعقل العربي

TT

عجيب أمر أمتنا، دخلنا في جدل عقيم حول الانتخابات التركية الأخيرة وفوز حزب تركي علماني يرفع شعارات علمانية محافظة. جماعة حزب العدالة والتنمية التركية قبلت اللعبة الديمقراطية، وأعلنت علمانيتها إعلانا بائنا لا رجعة فيه، وتدرك أن تراجعها عن المبادئ العلمانية التي تقبل بالآخر والتنازل عن السلطة يوما ما لو فاز من لا يرفع شعارات دينية بالمرة، سيقود إلى هلاكها على يد الجيش مثلما حل بسلفها حزب الرفاه.

جماعتنا من دعاة الدولة الدينية يستشهدون بالتجربة التركية على أنها خير دليل على نجاح تيارهم، وفي ذلك مغالطة كبيرة: ليس هناك حزب ديني عربي أعلن قبوله للعلمانية ومبادئها وقبول التنازل عن السلطة لو وصل إليها حزب ليبرالي أو شيوعي أو يساري لا ديني. جماعتنا ـ من دون استثناء تقريبا ـ يطالبون بالديمقراطية للوصول إلى السلطة، وبالتالي فرض القوانين التي يقولون بأنها ربانية، ومن ثم فإن القوانين الربانية إذا ما فرضت، لا يجوز التنازل والتخلي عنها لطرف سوف يقوم بنسفها وتغييرها. وهنا مربط الفرس.

هل يقبل الدينيون السياسيون في عالمنا بمبادئ الديمقراطية الليبرالية التي قبل بها الأتراك؟ وهل بينهم من يقول بأن ما يطرحونه اجتهادات بشرية لمصلحة مواطني بلدانهم وبأنها تخطيء وتصيب؟ أم أنهم جميعا يقولون بأن اطروحاتهم ترجمة لتعليمات ربانية لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها؟

المخجل أن فريقي الدولة الدينية والمدنية على حد سواء دخلوا في «خلطبيطة» لا جدوى منها حول مسألة حجاب زوجة الرئيس التركي الجديد عبد الله غول. فمن قائل إن الحجاب فرض واختبار لمصداقية دعاة الحرية، إلى من يقول بأن الحجاب رمز للتخلف والرجعية ومظهر من مظاهر الدولة الدينية. والحقيقة أن المسألة لا هذي ولا تلك:

من يرون في الحجاب واجبا دينيا يختلفون على النقاب ووجوبه من عدمه، ومن يرون في الحجاب ردة وتخلفا، يختلفون حول حدود الحرية في الملبس والمظهر. لكن القصة ليست في الحجاب أساسا، فالقضية تمس جوهر قدرتنا على تجاوز قيود «الثوابت» التي يفرضها التيار الديني لدينا، وحول حدود الحرية التي ينادي بها المدنيون بيننا.

في إيران مثلا يفرض الحجاب، ثم ازدادوا تشددا فراح حرس الثورة يحدد نوع الحجاب وشكله، ولكن في ماليزيا ـ النموذج الإسلامي الآخر للتطور ـ لا يطرح موضوع الحجاب في الجدل السياسي على اعتبارا أن هذه حرية شخصية، ولأن الناس هناك مشغولون في التصنيع والاختراع والعمل والإنتاج، بينما نرفل نحن في ثياب التخلف وننشغل جدلا حول حجاب زوجة غول التركية.

لا بديل عن القفزة في الفكر العربي ـ الديني من جهة، وفي الفكر المدني من جهة أخرى، فالديني ينشد دولة دينية ويشيد بالتجربة التركية التي يرفض أن يتبنى مبادئها، والمدني يشغله هاجس الخوف على العلمانية في تركيا.

حول هذه الإشكالية عقد مركز القدس للدراسات ندوة في عمان قبل أيام تتمحور حول الجدل بين الدين والديمقراطية وضرورة تطوير الفكر العربي ـ الديني، والحق أن موضوع الندوة هو بيت القصيد، الفكر الديني الجامد هو الحائل بين عقلنا العربي والتطور، والتذرع بقمع الأنظمة العربية لا شأن له بأطروحات الفكر الديني المتخلفة التي تملأ الكتب والمكتبات، لكن التذرع بالتخلف بالديني سبب واه يقدمه المدنيون ببقائهم على تخلفهم في ممارستهم نحو بناء الدولة المدنية. فهم يقدمون خليطا عجيبا من الخطاب المشوه الذي لا يحسم الجدل حول الدين والدولة، وفي ذلك انتهازية وقصور في التفكير.

الجدل الذي دار حول حجاب السيدة خير النساء غول ـ زوجة الرئيس التركي ـ في صحفنا ومقالاتنا، هو واحدة من مظاهر أزمة العقل العربي.