غاندي والعروبة

TT

تتردد بيننا في هذه الأيام الدعوة لاقتباس أسلوب غاندي في العصيان المدني والنضال اللاعنفي (الساتياغراها) في مقاومة اسرائيل وتصحيح الاوضاع القائمة في عالمنا العربي. إنها دعوة نبيلة ولكنها عقيمة. فهي تنطوي على سوء فهم للغاندية. فالساتياغراها تقوم على فلسفة وعقيدة عمادها المحبة والايمان بالأخوة البشرية وعائلة الانسان والسعي لا لقهر الخصم وإنما لإقناعه بعدالة قضيتك وتغيير موقفه وحمله على تفهم حقوقك ومحبتك له. وتتضمن على المستوى العملي الامتناع المطلق عن حمل السلاح او استعمال العنف. بدلا من إلحاق الاذى والعذاب بالخصم عليك أن تتحمل أنت أذاه وتعذيبه لك بصبر وتفهم، فهذا هو ما يؤدي الى إحداث انقلاب في تفكيره نحوك وفي تحريك عذاب الضمير الموجود في كل انسان.

لا ادري من منا يؤمن بهذه الفلسفة التي حققت الاستقلال للهند. لا ادري كم منا يشعر بحب الاسرائيليين وينظر اليهم كبشر مثله ويتطلع للعيش معهم بمحبة وتفاهم وتعاون كما نظر غاندي للإنجليز. لي رواية بطلها يهودي عراقي هاجر الى اسرائيل. رفض الناشرون العرب نشرها لأنها تقدم هذا الرجل في إطار انساني نبيل. يبدو لي ان الدعوة للعصيان المدني واللاعنف بيننا تعود لفشلنا في استعمال السلاح وليس لإيماننا برفض استعماله من منطلق اخلاقي او روحي. الخصم يعرف أنك تدعو للاعنف كمجرد مرحلة انتقالية وستعود للسلاح حالما تسنـح الفرصة. يصبـح اللاعنف بالنسبة لك سلاح الضعيف والجبان. أما غاندي فكان يقول إن اللاعنف ينبغي ان يكون سلاح القوي الواثق من نفسه. لا بد من فصل تام بين المؤمنين بالسلاح والرافضين له. وكانت هذه غلطة عرفات عندما تبنى الانتفاضة الاولى التي كانت في جملتها حملة لا عنفية. من اين لإسرائيل او العالم ككل أن يؤمن بأن ياسر عرفات اصبح خليفة لغاندي؟

عندما شن غاندي حملة العصيان المدني في اوائل العشرينات من القرن الماضي ضد الاستعمار البريطاني ادت الحملة الى كثير من الاضطرابات والحوادث الاليمة والعنفية بما دفعه فورا الى الدعوة بتوقفها. أعرب عندئذ عن رأيه بأن الشعب الهندي لم يكن مستعدا او مؤهلا بعد للساتياغراها. فكما قلت، هذه عقيدة اشبه بالدين. وما لم يكن الجمهور، او القادة على الأقل، مؤمنين بها فلن تقنع احدا، وبالتالي لن تأتي بثمارها.

إذا كان هناك يوم يحتاج فيه العرب الى تبني الفلسفة الغاندية فهو في هذه المرحلة الراهنة التي اخذ العنف فيها يمزق أحشاء الامة ويدمر فرصتها الرائعة الراهنة للنهوض ويهدد الوحدة الوطنية ويذيق المر والعذاب للمواطنين الابرياء. من اول تعاليم الغاندية ألا يقصر الانسان حبه وعطفه وحرصه على ابناء بلاده او قبيلته فقط وإنما ان يفتح قلبه وضميره لأبناء كل الشعوب . فعندما يعطف الانسان على الجائعين في افريقيا يستطيع ان يعطف على الجائعين في بلاده. وعندما يمتنع عن إطلاق النار ضد عدو سيمتنع عن إطلاق النار ضد أبناء وطنه.