الغلاغمشة

TT

العام 1839 قرر الانجليزي هنري أوستن لبارد السفر براً الى جزيرة سيلان، سري لانكا الحالية. وفيما كان يعبر العراق لفتت انتباهه سلسلة من التلال الصغيرة الغامضة فقرر التوقف والتحقق. ولم يكن يدري أنه يبدأ إحدى أهم عمليات الحفر في التاريخ. فالذي عثر عليه لبارد كان بقايا نينوى، إحدى أقدم المدن في تاريخ البشرية.

مع استمرار التنقيب عبر العقود، تم العثور في نينوى على آثار كثيرة، كان أهمها الأحافير التي روت ملحمة غيلغامش، والتي استغرق فك رموزها نحو 20 عاماً. وكانت تلك أول حكاية في حياة البشرية. وخلاصة «ملحمة غيلغامش» السومرية أن مملكة أوروك تقع في قبضة شر عظيم غامض. وتبين أن مصدر الخطر وحش هائل، هو مبابا الذي يعيش في وسط غابة بعيدة جداً. وهكذا يذهب البطل غيلغامش الى صناع الأسلحة الذين يزودونه بقوس ونشاب عظيمين وفأس هائلة، ثم ينطلق في رحلة محفوفة بالأخطار نحو الوحش. وبعد صراع رهيب معه، ينتصر عليه ويعود الى مملكته منتصرا.

وقعت هذه الملحمة العظيمة في أيدي خبراء وزارة «الثقافة» أيام صدام حسين، فيما وقع بين أيديهم من ثقافات ومثقفين وملاحم. وبسرعة فائقة وفظاظة موصوفة تم تجيير أول ملحمة أسطورية رمزية في التاريخ، لحساب القصر الجمهوري. ولم يعد الرئيس هو فقط صلاح الدين الآخر، ابن منطقته، ولا هو فقط حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بل هو أيضا غيلغامش الذي سوف ينقذ العراق من الوحش. ولذلك كان لا بد من اختراع وحش ما. وهكذا مزقت الاتفاقية الموقعة مع إيران ثم ذهب الى الكويت وإذا بالعالم يأتي إليه بدل أن يذهب هو للبحث عنه.

المشكلة الآن أن غيلغامش لم يعد يعرف في أي غابة عميقة هو الوحش الذي ينهش العراق. ولا عدد الوحوش في الداخل والخارج. ولا هناك من ظل أو خيال لمنقذ يطل على العراق. كانت هناك مجموعة رجال رافقوا الأميركيين الى بغداد ثم ذابوا في دجلة ولم يعد أحد يعرف أين هم وماذا حدث لهم ولا ماذا حدث للمشاريع الإنقاذية التي رسموها من أجل العراق. ولم يقل لنا أحد هل الذي حدث قد حدث لأن الأميركيين أصغوا الى أصدقائهم أم لأنهم لم يصغوا اليهم.

الأكيد أن تماثيل الملح ذابت في مكان ما. لم نعد نرى أحدا منهم. ولم نعد نرى أولئك السادة محاطين بالحرس الأميركيين العمالقة، باعتبار أن الحراسة جزء من العقد. ماذا حدث؟

أين هم الغلاغمشة الذين ذهبوا بعيدا لإنقاذ العراق؟