الرحالة بوش يكتشف السنة ويتجاهل العروبة

TT

في حكايا الأدب الفرنسي، حكاية عن طبيب ثقيل الدم نزل في بلدة اسكندر ديما. ثم ذهب إليه متوسلا أن يسجل في «أوتوغرافه» عبارة استحسان وتزكية تعينه على صيد الزبائن.

استجاب ديما. كتب: «عندما حل الدكتور جوستال في بلدتنا أغلقنا المستشفى الذي لم يعد له لزوم» هنا صاح الطبيب شاكرا. لكن الأديب الكبير أضاف ساخراً: «ووسعنا المقبرة».

يا هلا بالضيف. شيخ عشائر البيت الأبيض نزل بمضارب عشائر السنة في الأنبار. شرب القهوة المرة برفقة الشيخة كوندوليزا. ثم استدعى المالكي شيخ عشائر النظام الشيعي إلى الخيمة. عاتبه على تأخره في مصالحة عشائر السنة.

اللهم اجعله بردا وسلاما على قبائل السنة والشيعة. فقد توسعت المقبرة كثيراً منذ أن حلت أميركا ضيفة غازية على الخيمة العراقية.

الرحالة بوش اكتشف أخيرا سنة العراق. صالحهم في صحراء الأنبار. هل كانت المصالحة مجرد تبويس شوارب ولحى؟ أم هي تبكيت وتأنيب للضمير على الكارثة التي أنزلها بالعرب، كارثة تكاد تعادل نكبتهم في فلسطين؟

نعم، اكتشف بوش السنة، وتجاهل العروبة. عندما أقلب صفحات التاريخ أجد أن عروبة العراق تعرضت لنكسات. كان العراق مسرحا للكر والفر بين عروبته والفارسية الإيرانية. وهو اليوم يتعرض لغزوة جديدة. وإذا كان التاريخ صادقا في تكرار ذاته، فالعراق سوف ينجح في استعادة وجهه العربي.

المالكي الذي عتب على فرنسا، وطلب اعتذارا من وزير خارجيتها وحصل عليه، هو نفسه المالكي الذي يلح على العرب مع وزير خارجيته هوشيار زيباري لفتح سفارات لهم في بغداد «الآمنة المستقرة»، هو نفسه المالكي مع زيباري، اللذين لم يطالبا الرئيس الإيراني نجاد بالاعتذار عن مباهاته بالاستعداد «لملء الفراغ الأمني في العراق»، في حالة انسحاب أميركا!

كان المالكي قبل أن يدخل خيمة الحكم أستاذا للأدب العربي عمل فترة من عمر معارضته لصدام مدرساً في المدارس السورية، قبل أن يحل ضيفاً على الحوزة الإيرانية. كيف تنطق عشائر الحكم الشيعي بالعربية، من دون أن تصدر عنها كلمة واحدة تؤكد عروبة العراق، معلنة اعتزازها بها؟

العرب لن يقبلوا بهيمنة إيران على العراق. لكن النظام العربي (السني) كان عليه تذكير بوش ورجال إدارته بأن اعترافهم بالسنة كطائفة لن يضمن للعراق الاستقرار، طالما انه يعتبرها «أقلية» مجردة من الانتماء الى هوية، وطالما أنه يلح عليها للاعتراف بالنظام الطائفي لـ«الأغلبية» الشيعية/ الكردية.

لجوء بوش الى وضع يده في زنار القبيلة مستجيراً بها ضد المقاومة «الجهادية» سيظل مجرد حلف تكتيكي مع العشيرة والطائفة، وليس حلفاً استراتيجياً عميقاً مع العروبة. الديمقراطية التي بشر بها بوش النظام العربي عندما أسقط نظام صدام، ستظل ديمقراطية منقوصة وغير جدية، طالما أنه يتحدث عن العرب بمنطق الطائفة والعشيرة.

تمكنت مخابرات بوش من تجنيد العشيرة السنية، بعدما جندت العشيرتين الشيعية والكردية. إعلام بوش يتحدث عن مصالحة مع «الأعداء» لا مع الأصدقاء. أين الديمقراطية الباحثة عن الساسة لا عن شيوخ العشيرة؟ نظام صدام المتخلف انتهى أيضا في حضن العشيرة. لم يرق قط إلى حلم «البعث» بدولة بلا عشائر وطوائف. الحزب نفسه أصبح أسير الطائفة في سورية، ورهينة لدى العشيرة في العراق.

النظام العربي مسؤول مسؤولية تاريخية وقومية عن ضرورة مصارحة الإدارة الأميركية بضرورة إسقاط منطق العشيرة والطائفة، والتحدث عن العرب كأمة لها مصالحها في العراق لحماية أمنها القومي. لست معتديا على الشيعة والأكراد. قلت مراراً إن شيعة العراق عرب أقحاح، لا سيما عشائرهم، وأحسب أن الأمة العربية باتت من الوعي، بحيث تقبل أيضا بقرار كردي بالاستقلال والانفصال عن العراق. لكن لا يمكن لأكراد طالباني وبرزاني المشاركة في حكم العراق، ثم يمنعون إدارته المركزية من المشاركة في تقرير شؤون المنطقة الكردية.

حتى الانسحاب من العراق أو البقاء، يكاد أن يكون مسألة أميركية بحتة. لا بحث. لا مشاورة جدية وعميقة مع النظام العربي! ربما هناك نصيحة عربية هامسة بعدم الانسحاب، لكي لا تترك فورا فراغا لتملأه إيران، على الرغم من أن شيعتها الحاكمة لم تستطع أن تشكل بعد أربع سنوات من الاحتلال طبقة حكم، أو مؤسسة بيروقراطية وتكنوقراطية. عبرت عشائر النظام الشيعي عن إخفاقها المذهل في هذا الاقتتال بينها للسيطرة على أضرحة الموتى ومصائر الأحياء.

إياد علاوي له أخطاء. لكنه قادر على تجاوز منطق الطائفة، ليتحدث عن الدولة بمنطق المواطنة المتوازنة، على الرغم من أن في عهده تم تسريح الجيش العراقي الذي كان بإمكانه ضمان الأمن، بدون الاقتتال المذهبي، بعد تطهيره من ضباط صدام. بول بريمر يعترف اليوم بأن عصبة يهود البنتاغون، من أمثال وولفويتز وفيث، رحبوا بحرارة بتسريح الجيش، وقال إن بوش مَحضه ثقته الكاملة.

انتقل العراق هذا الأسبوع الى صميم اللعبة الديمقراطية بين عشائر الحكم والمؤسسة في أميركا. الجنرال بترايوس شيخ القبيلة الأميركية المقاتلة في العراق زار حماه (حماته) طلبا للبركة، ولَمَّع بوش له نياشينه، ليخوض بها منذ أمس (الاثنين) معركة إقناع عشائر الكونغرس بضرورة البقاء في العراق. يبدو أن الحزب الديمقراطي، وفي مقدمته الشيخة هيلاري كلينتون، بات على استعداد للقبول بانسحاب جزئي، بعدما أدرك خطر الانسحاب السريع.

العرب، وفي مقدمتهم السوريون، لا بد لهم من تقبل حقيقة مرة، حقيقة أن أميركا سوف تبقى سنين طويلة، في العراق. في المقابل، فعلى أميركا بوش إدراك أن لا استقرار في العراق، ولا مصالحة حقيقية مع السنة، إلا بإكراه إسرائيل على الانسحاب، على الأقل، من الضفة. من الخطأ تغييب السوريين عن مؤتمر الخريف الفلسطيني. سورية خسرت ورقتها اللبنانية التي كانت تضغط بها لتحقيق تسوية سلمية في الجولان، فعوضتها بتوثيق وتعميق تنسيقها مع إيران.

لا بد أيضا من طمأنتها على أمنها المحلي والإقليمي. خلافا لكل التحليلات، أستطيع أن أقول إن تسلل الطيران الاسرائيلي على طول الحدود السورية/ التركية (800 كيلومتر) كان بهدف استطلاع وتجربة القنوات الجوية المؤدية الى الأجواء الإيرانية، إذا ما قررت إسرائيل، بتنسيق مع أميركا، ضرب المراكز النووية. لم تسأل سورية أو العرب تركيا عن أسباب صمتها عن التسلل الاسرائيلي. سورية قالت إنها تحتفظ بحق الرد، وأقول سلفاً إنه لن يأتي.

حققت إدارة بوش نصراً كبيراً على ابن لادن في سحبها عشائر السنة العراقية من خيمته. لا يمكن لنظام طالباني أن تقوم له قائمة في العالم العربي، وهو على هذه الجاهلية المتزمتة التي لا تتفق مع كرامة الناس. ستبقى جهادية ابن لادن معششة في «تورا بورا» الأفغانية والباكستانية، وربما في تورا بورا اللبنانية، لأنها غير مؤهلة لتشكيل نظام حكم بديل.

دعوة ابن لادن أميركا الى الإسلام قدمت في أسلوبها دليلا على قصور فكر الجهادية الطالبانية. اقترح الرجل إسلام تورا بورا بديلا للديمقراطية. من الظلم للإسلام تقديمه بديلا أو متناقضا نافيا للحرية السياسية والإنسانية، في الوقت الذي يكافح فيه العرب لنفي تهمة عداء الإسلام للحريات، بما فيها حرية الفكر والثقافة.