بيرم السعودية

TT

كان عمنا الكبير الشاعر والناثر والزجال السعودي أحمد قنديل ـ رحمه الله ـ يحلو له أن يبدأ حديثه معي مداعبا بعبارة:

ـ «يا واد استق رايق».

وكان يقصد بتلك العبارة الشعبية أن ألزم حدودي، بعد أن أبديت في عقد السبعينات لفترة شيئا من الاهتمام ببعض ألوان التراث الشعبي «الجداوي» كالأمثال والحكايات والنداءات الشعبية، وتلك مجالات تشكل ملعب القنديل الذي لا ينازعه فيه أحد، فهو موسوعة فلكلورية، وكل ما نعرفه في مقابلها لا يتجاوز الفتات.. وكان يردف تلك العبارة التي تطالبني بأن ألزم حدودي, بأجمل عبارات التشجيع على المضي في الاهتمام بهذا الشأن الذي يراه بالغ الدلالة لدراسة سيكولوجية المجتمع والتعرف على طبيعة مزاجه الخاص.

وشعبيات القنديل ـ شعرا ونثرا ـ لوحظت من النقاد ببعض الاهتمام ليضم إلى جانب قامته السامقة في الفصحى قامة أخرى في العامية المبدعة لا تقل عن قامتي بيرم التونسي وصلاح جاهين، ولكن في إطار سياقاته الاجتماعية الخاصة، يدعم كل ذلك ظرف شخصي، وبديهة حاضرة، وتعليقات ساخرة، وحضور مميز.

بالأمس كنت على مائدة إبداعه، عشت ساعات مع أبطال نثره، وعرائس شعره، فالقنديل بالنسبة لي حالة إعجاب خاصة، منذ أن قرأت قبل عقود مجموعته القصصية «أبو عرام والبشكة»، لأخرج بعدها إلى حارات جدة العتيقة اقتفي أطلال شخوصها، ومراتع أيامها، وقد جعلهم القنديل في دواخلي أحياء، تربطني بهم عشرة وألفة و«عيش وملح».. ولا زلت في كل مرة يشدني الهوى إلى جدة العتيقة، أجد نفسي أسير في حاشية من أبطال القنديل، فإن مررت بشارع قابل أحسست وكأن الخواجه الإغريقي «إيكيليا» يبحلق بعينيه الزرقاوين من داخل دكانه ليصطاد من يفاكهه من العابرين، وإن غادرت «قابل» إلى الرسوم الدارسة لـ«قصبة الهنود» هبت إلى أنفاسي رائحة «المضبي»، حتى ليخال لي أن «الخال سالمين» لا يزال يضرم ناره هناك، وإن رفعت رأسي لأتأمل مئذنة المسجد العتيق البالغة من العمر ثمانية قرون، ظننت أن «سبع الليل» لتوه قد هبط من قمتها بعد أن أحكم هلالها.. هؤلاء وغيرهم هم أبطال قنديل الذين يلتقطهم من زحمة واقعه ليكسوهم بالكثير من حلل ظرفه ودعابته وخفة ظله.

والشكر موصول لـ«الاثنينية» وصاحبها على إصدار المجموعة الكاملة لهذا المبدع بعد هذه السنوات الطوال من رحيله، فقنديل يستحق أن يجدد حضوره لتفخر به الأجيال النابتة كما فخرنا، ولتحتفي به عصورهم كما ازدهى به عصره.

[email protected]