شغف التميز

TT

كان الاتحاد السوفياتي يقمع شعراءه وأدباءه ومفكريه، لكنه كان يرسل إلى المباريات الأولمبية أفضل الرياضيين والعداءين والسباحين. وكان يعتمد في حرب «العلاقات العامة» على كاسباروف، لاعب الشطرنج. وكان تشاوشسكو في رومانيا يعزل المرضى بدل معالجتهم، لكنه يربح دائما مباريات اللياقة البدنية. وهكذا كان حال المانيا الشرقية. لا بَّد، دائماً من التميز في شيء ما. الدول يصنعها القادة المميزون والمجتمعات يطورها الأفراد المميزون: علماء الاقتصاد في أميركا وعلماء الهندسة في فرنسا وعلماء التطوير في اليابان والعقل الذي حَّول سنغافورة من نفايات الصفيح إلى منجم ذهب.

لم يعد مكان لدكان الحي وبقالة الزاوية. وقد اختفى من التعابير الشائعة مصطلح «التاجر المعتبر» وحل مكانه «رجل الأعمال المعروف»، ولم يعد هناك مكان، أو استخدام، لمصطلح الوجيه «الفلاني»، فقد تجاوزت مقاييس النجاح مكونات «الوجاهة» بزمان. ولم يعد القليل من الثراء يشكل امتيازا في مجتمع من المستكفين. وكانت الناس تسمي «مليونيرا» من يملك ما يزيد على نصف مليون، والآن لم يعد مليونيرا من يملك ما يزيد على خمسة ملايين. وكان عدد العاملين بالبورصة في العالم العربي قبل ثلاثين عاما لا يتعدى بضع مئات، والآن في كل بلد عربي بورصة تعمر وتخرب، وتثري وتفقر.

لم تعد الناس ـ للأسف ـ في سباق مع الكفاية وفي هرب من العوز، بل هي جميعاً في سباق طاحن نحو الثروة، والمزيد منها. وكان المرء في الماضي يحاول أن يستر فقره، وإذا كان غنيا كان يحاول أن يستر الفاحش منه. لكن عالم اليوم هو معرض متنقل لمظاهر الثروة. وثقافة، أو «حضارة» السوق، لا تحصي كل عام من هم الأكثر إنجازا بل من هم الأكثر مليارات. ذلك أن النجاح أصبح له مرادف واحد هو رقم الحساب. وقد درت مؤلفات «هاري بوتر» على صاحبتها أكثر من مليار دولار حتى الآن، وهو رقم لم يعرفه مجموع شعراء وفلاسفة بريطانيا في القرن الماضي.

لكن الأثرياء الذين يدخلون لائحة «فوربس» كل عام، لا يدخلون لائحة «نوبل» في الأدب أو السلام أو العلوم. ولا يدخلون «الأكاديمية الفرنسية». وفلاسفة الاقتصاد المعاصرون ماتوا عن أموال متواضعة. وكان أشهر كتب القرن الماضي بعنوان «المال» للكندي جون كينيث غالبريس الذي عاش إلى ما فوق التسعين. ولم يجمع من الثروتين سوى الأولى: السمعة.