ساركوزي وتحاشي الصدام بين الإسلام والغرب

TT

انه لشيء مدهش ولافت للانتباه فعلا ان يركز الرئيس الفرنسي نقولا ساركوزي كل هذا التركيز على العلاقات بين العالم الاسلامي والغرب. ففي الخطاب الذي ألقاه أمام السفراء وكبار الشخصيات الفرنسية والذي بلور فيه الخطوط العريضة لسياسة بلاده الخارجية، حدد ساركوزي ثلاثة تحديات تواجه العالم في القرن الواحد والعشرين، وأولها هو التحدي الاصولي.. اما التحدي الثاني فيخص كيفية دمج الدول الصاعدة في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي: أي الصين والهند والبرازيل. وهي دول سوف تصبح عملاقة عما قريب نظرا لحجمها السكاني والتقدم الصناعي والتكنولوجي الذي تحققه يوما بعد يوم.

وأما التحدي الثالث فيخص سخونة الجو التي اصبحت تقلق جميع سكان العالم وليس فقط السيد ساركوزي. يضاف الى ذلك الخوف من نضوب البترول بعد فترة مختلف عليها بين الخبراء ولكن التي قد لا تتجاوز العشرين او الثلاثين سنة مقبلة. وبالتالي فقد آن الاوان للتفكير بإيجاد طاقة بديلة لتحريك عجلات العالم ومصانعه غير النفط: وأولها الطاقة الذرية، فالشمسية، فحتى الهوائية، الخ.

ولكن الرئيس ساركوزي عاد اكثر من مرة الى التحدي الأول وشخصه على النحو التالي: كل بلدان العالم بما فيها بلدان العالم الاسلامي واقعة تحت تهديد التفجيرات الاجرامية كتلك التي أصابت نيويورك وبالي ومدريد وبومباي واسطنبول ولندن والدار البيضاء.. ولكن ما الذي سيحصل غدا اذا ما استخدمت الجماعة الارهابية كالقاعدة وسواها اسلحة اخطر من كل ما سبق: أي اسلحة ذرية او بيولوجية او كيميائية؟ انها عندئذ قد تدمر عاصمة غربية بأسرها وتصبح ضربة (11) سبتمبر بالقياس اليها مزحة بسيطة.

بالطبع فان ساركوزي لم يذهب الى مثل هذا الحد من التلويح بالخطر. ولكن الخبراء والمثقفين الغربيين من اوروبيين واميركان لا يستبعدون حصول مثل هذه الاحتمالية المرعبة: أي تدمير عاصمة او نصف عاصمة او عدة احياء دفعة واحدة عن طريق إلقاء قنبلة ذرية صغيرة او قنبلة بيولوجية فتاكة في وسط العاصمة او في حشد من البشر.

الشيء الآخر اللافت للانتباه في هذا الخطاب المهم هو الاشارة لأول مرة على حد علمي الى الدور الايجابي الذي يمكن ان يلعبه مسلمو فرنسا في تحاشي هذا الصدام المروع بين الحضارات. فالجالية العربية الامازيغية الاسلامية الضخمة في فرنسا قد تصبح جسرا حضاريا يصل بين كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط، ويمكنها بكل طاقاتها الابداعية وهضمها لأفضل ما أعطاه التراث العربي الاسلامي الاصيل، وكذلك الحداثة الفرنسية والأوروبية المشرقة أن تساهم في التقريب بين الطرفين، بل وفي نشر التنوير الفكري والتسامح الديني في كل انحاء المغرب العربي الكبير.

ولكن السيد ساركوزي الذي كان وزيرا للداخلية يعرف جيدا ان هذه الجالية الكريمة لا تستطيع ان تقوم بدورها الايجابي إلا اذا احترمت في فرنسا ذاتها ونالت حقوقها كأي جالية أخرى لا أكثر ولا أقل. فالبطالة مستفحلة في صفوفها بشكل لا انساني ولا يليق بالبلد الذي صدَّر الى العالم التنوير الفلسفي والثورة الفرنسية والإعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن. فليحسّنوا أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية أولا وليشعروها بكرامتها وإنسانيتها وعندئذ يمكن ان تصبح ذلك الجسر الحضاري الكبير المفيد لفرنسا وللعالم المغاربي والإسلامي كله. فهي بملايينها الاربعة أو الخمسة ذات طاقات ابداعية رائعة لا يستهان بها. وبهذا الصدد ينبغي على فرنسا ان تؤسس كليات للفكر الاسلامي تماما كالمعهد الكاثوليكي في باريس او الكليات البروتستانتية واليهودية التي تدرس الدين بطريقة حديثة، تاريخية، موضوعية. وحده الاسلام محروم من هذه الكليات حتى الآن. ولو انها أسست لطبقت على تراثنا العربي الاسلامي نفس المناهج الحديثة في البحث العلمي: أي المنهج السوسيولوجي، والتاريخي، والألسني، والفلسفي، ومنهجيات تاريخ الأديان المقارنة، وعندئذ لا يعود تدريس الدين الاسلامي حكرا على التقليديين المنغلقين على أنفسهم والرافضين للحداثة جملة وتفصيلا. فالثورة الفكرية لن تحدث داخل الاسلام إلا بهذه الطريقة. ولن ينتصر التيار التنويري المتسامح على التيار الاصولي المتطرف إلا اذا قُمنا بهذا العمل الخطير الذي قد يكون أكبر مهمة مطروحة علينا في هذا القرن الواحد والعشرين. قد يقول قائل: ولكن هذه مهمة الدول العربية والمثقفين العرب بالدرجة الأولى لا مهمة فرنسا أو سواها. وهذا صحيح. ولكن ماذا نفعل اذا كانت المدارس التقليدية في باكستان وسواها هي التي خرجت الطالبان وكل الحركات المتزمتة التي تسيطر على الشارع الاسلامي والعربي اليوم؟ ينبغي ان نعترف: العالم العربي والإسلامي حتى الآن غير قادر على مواجهة مشكلته الخطيرة وجها لوجه. انها أكبر منه، أكبر منا جميعا.. كلنا نتاج التربية التقليدية وقد بذلنا المستحيل للخروج منها من اجل قبول الآخر المختلف دينا أو لغة أو مذهبا عنا. ليس من السهل ان تقبل بالآخر أو بالتعددية الدينية والتنوع كما يدعونا الى ذلك الرئيس الفرنسي وبحق.

التسامح، كما قال المؤرخ الكبير جاك لوغوف، ليس هو الحالة الطبيعية للانسان، وإنما التعصب وبالتالي فالتسامح يجيء كنتيجة لجهد ضار تقوم به الذات على ذاتها من اجل قبول الاختلاف والتنوع في المجتمع.

ولا ينبغي ان نزاود على بعضنا بعضا فيما يخص هذه النقطة، فكلنا متعصبون في أعماقنا اذا ما تركنا الأمور على سجيتها.. وبالتالي فينبغي ان نقاوم عصبياتنا وطفولتنا وتربيتنا الأولى لكي نستطيع أن نصبح متسامحين. ينبغي أن نقبل بأن نضع على محك الشك والتساؤل كل عقائدنا الموروثة من أجل تفحصها وغربلتها من أجل فرز الصالح عن الطالح. وهذا ما يفعله المثقفون العرب المستنيرون حالياً. ولكن عددهم لا يزال قليلاً بالقياس الى ذلك البحر الهادر من الأصوليين والتقليديين وأئمة الجوامع، الخ. وبالتالي فموازين القوى غير متكافئة على الاطلاق بين الطرفين. والثقل السوسيولوجي، أي العددي، للأصوليين الرافضين للتعددية والانفتاح، لا يزال أكبر بكثير من الثقل السوسيولوجي للمثقفين التحديثيين ولا يوجد مثقف عربي واحد قادر على مواجهة أصغر شيخ أصولي على شاشات التلفزيون الا اذا استسلم له مباشرة وحتى قبل بدء المناقشة! .. لماذا؟ لأنه قد يكفره في أي لحظة اذا ما استخدم المحاجات العقلانية الفلسفية في فهم الدين أو تفسيره. وبالتالي فعن أي شيء سوف يتناقشان؟

يضاف الى ذلك أن الجمهور المشاهد في أغلبيته العظمى سوف يصفّ بشكل أتوماتيكي الى صالح الشيخ الجليل لأنه لم يتح له ان يسمع بلغة أخرى عن الدين غير تلك الموروثة أبا عن جد منذ مئات السنين.. فكيف يمكن له أن يفهم لغة أخرى جديدة منفتحة على العلم والفلسفة والعقل؟ مشكلة عويصة لن تحل قبل عشرات السنين...

من هنا ضرورة تغيير ليس فقط برامج التعليم في العالم العربي الاسلامي وإنما تغيير الاساتذة ايضا. ولكن كم هو عدد الاساتذة الذين يستطيعون تعليم الدين بطريقة عقلانية حديثة؟ كم هو عدد المطلعين على تاريخ الأديان المقارنة، أو علم اجتماع الاديان، أو فلسفة الاديان في العالم العربي؟ كم هو عدد المثقفين العرب الذين اطلعوا على الابحاث الاستشراقية الكبرى عن التراث الاسلامي؟ اقصد الاستشراق الاكاديمي العالي المستوى بالطبع.

الرئيس ساركوزي يقول إنه سيشجع قوى الاعتدال والحداثة في العالم الاسلامي. وهذا يعني المساعدة على انبثاق اسلام منفتح ومتسامح يقبل بالتعددية بصفتها غنى وخصوبة، أو نعمة لا نقمة. ولكنه يعترف في ذات الوقت بأنه لا يوجد حل سحري للمشكلة، ولا معجزات في هذا المجال. وهذا يعني انه واع كل الوعي لمدى صعوبة المشكلة وتعقيدها وخطورتها. ففرنسا نفسها كانت ترفض التعددية الدينية أو المذهبية رفضا قاطعا عندما كانت لا تزال أصولية متعصبة. ومعلوم انها سحقت أبناء المذهب البروتستانتي سحقا وهجَّرتهم من بلادهم الى مختلف أصقاع العالم في القرن السابع عشر. ولا تزال تأسف على فعلتها الشنعاء تلك وتخجل منها. ومعلوم أن مليكها لويس الرابع عشر الملقب بلويس الكبير أو بالملك الشمس طرح عندئذ الشعار التالي: مذهب واحد! قانون واحد ملك واحد! وقام بالتطهير المذهبي للبلاد على هذا الأساس. فمن لم يقبل بتغيير مذهبه واعتناق المذهب الكاثوليكي، أي مذهب الأغلبية، قتلوه أو طردوه. ثم استنارت فرنسا بعدئذ وطوت الصفحة الطائفية من تاريخها..

والآن ماذا يحصل في العراق أو أفغانستان أو باكستان أو سوى ذلك من البلدان؟ ألا يوجد تطهير عرقي طائفي. ومذهبي؟ ألا توجد حروب أهلية ومجازر؟ وماذا حصل لليزيديين المسالمين في شمال العراق على يد قاعدة التعصب الأعمى؟ نحن في عزّ القرون الوسطى ايها السادة، ولن ينبلج النور عما قريب وأتمنى أن أكون مخطئاً.