كل الطرق تؤدي إلى روما ما عدا الطريق السورية!

TT

قبل أن يصل البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير إلى روما للتشاور مع بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر في شأن المأزق اللبناني المتفاقم، مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي الذي من المفترض أن يكون في الخامس والعشرين من هذا الشهر حسب دعوة رئيس المجلس النيابي نبيه بري، كان قد سبقه إلى العاصمة الإيطالية وللغاية نفسها والسبب ذاته نائب الرئيس السوري فاروق الشرع الذي يعرف هذه المدينة التاريخية معرفة جيدة لأنه أقام فيها كسفير لبلاده لبضعة أعوام قبل أن يصبح وزيراً للخارجية ثم تتم ترقيته ليصبح نائباً لرئيس الجمهورية.

كانت زيارة الشرع إلى الفاتيكان استباقا لزيارة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، الذي حمل معه إلى بابا الفاتيكان أوجاع لبنان وتخوفات الطائفة المارونية، فسوريا التي تشعر بالعزلة الخانقة أرسلت نائب رئيسها هرولة إلى روما ليقطع الطريق على كل ما سيقال للبابا بنديكتوس السادس عشر وليستثمر لدى الحبر الأعظم كون أن المسيحيين السوريين يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة وبدون أي تمييز بينهم وبين الأكثرية الإسلامية.. وهذا في حقيقة الأمر صحيح وليس بحاجة للأخذ والعطاء والنقاش!!

أحسَّت دمشق بدور مؤثر لـ« الفاتيكان» سيلعبه بالنسبة لاستحقاق الانتخابات الرئاسية اللبنانية وشعرت بما هو أكثر من مجرد الغيرة لتزايد الاتصالات بين الإدارة الأميركية والحبر الأعظم فأرسلت فاروق الشرع ليس لموقعه بل لخبرته بالشؤون «الفاتيكانية» برسالة «خاصة» من الرئيس بشار الأسد إلى البابا بنديكتوس السادس عشر تؤكد التقديرات أنها تركزت على المسألة اللبنانية، وهذا على غير ما قاله نائب الرئيس السوري في تصريحاته العلنية التي تحدث فيها عن أن محادثاته مع وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور دومينيك مانبرتي تناولت أوضاع اللاجئين العراقيين على الأراضي السورية والمساعدات المنتظرة من المنظمات الدولية، وتناولت، وهذا هو بيت القصيد، «المساهمة الحاسمة التي بإمكان الجمهورية العربية السورية أن تقدمها لتخطي الأزمات الخطيرة التي تواجهها شعوب منطقة الشرق الأوسط »!!

لم تستطع دمشق احتمال أن «الكرسي الرسولي» بات يشكل، مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي، محور حركة دولية تتعلق بالأزمة اللبنانية وبالانتخابات الرئاسية المقبلة التي أقترب موعدها، فأرسلت فاروق الشرع إلى روما على جناح السرعة على أمل، أن يتمكن، من خلال الرسالة التي حملها معه وبالاستعانة بالأوضاع المريحة التي يعيشها المسيحيون في سوريا، من إقناع الحبر الأعظم بأن سوريا «المظلومة» التي تدخلت ذات يوم، في عقد سبعينات القرن الماضي، لحماية موارنة لبنان بصورة خاصة ومسيحييه بصورة عامة بحاجة إلى دعمه ومساندته وبحاجة إلى أن يتفهم موقفها الحالي إزاء المأزق اللبناني المتفاقم.

والمعروف أنه قبل زيارة البطريرك الماروني مار نصر الله صفير وقبل زيارة فاروق الشرع، هذه المشار إليها، كان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد وولش قد قام بزيارة «لبنانية» إلى «الفاتيكان»، وهي زيارة تبعها إرسال مبعوث فاتيكاني إلى بيروت حيث تحدثت المعلومات في ذلك الحين عن أنه كان قد حمل معه إلى «بكركي» أولاً، ثم إلى جميع القيادات الحزبية والرسمية التي التقاها ثانياً، إصراراً بابوياً على أن الاستحقاق الرئاسي يجب أن يكون في موعده وحسب المواد الدستورية النافذة المتعلقة بهذا الأمر.

إن هذه مسألة، ثم هناك مسألة أخرى وهي أن سوريا رغم أنها تحدثت عن أنها سوف تقاطع مؤتمر الخريف المقبل، الذي دعا إليه الرئيس الأميركي جورج بوش والذي كما هو معروف يتعلق بإيجاد حل أو على الأقل انفراج لأزمة الشرق الأوسط، وأنها لن تحضره فإنها في حقيقة الأمر " مستقتلة» لحضوره لأنها تخشى من أن تزداد عزلتها عزلة وتخاف أن يتم الاستفراد بها وبمسارها إن تمكن هذا المؤتمر من تسهيل الأمور بالنسبة للمسار الفلسطيني الذي تشعر القيادة السورية أن الحركة الدولية الناشطة الآن تركز عليه وحده.

المؤكد أن القيادة السورية، التي رغم تحالفها مع إيران ونصف تحالفها مع قطر، تشعر بعزلة خانقة كتلك التي كانت سوريا تعيشها قبل حركة الرئيس حافظ الأسد «التصحيحية» في عام 1970، قد حمَّلت فاروق الشرع رجاءً حاراً إلى بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر بأن يبذل مساعيه «الخيرة» لدى الأميركيين والأوروبيين وكلِّ من لهم علاقة بهذا الشأن كي لا تُستثنى من مؤتمر الخريف المقبل (الدولي ) الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش والذي كان يُعتبر بمثابة حركة علاقات عامة عابرة وبات مع اقتراب موعد انعقاده يحظى باهتمام يرجح إمكانية نجاحه ولو في الحدود الدنيا.

لا يمكن إلا أن تشعر القيادة السورية، التي تشعر بالعزلة وتخشى الحل المنفرد، بحاجتها إلى هذا التحرك وهي ترى كل هذه الحركة الدولية النشطة تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله وتجاه إسرائيل وتجاه الرياض والقاهرة وعمان، والمؤكد أنها، أي القيادة السورية، تشعر بالغيظ والغيرة والخوف والحنق وهي ترى كل هذا الحجيج الذي يقوم به عدد من الزعماء والساسة الأوروبيين إلى المنطقة مع استثناء دمشق، والمعروف أن هذه المنطقة قد استقبلت في الأيام الأخيرة كلاً من المستشار النمساوي الفرد غوسنبارو، ووزير الخارجية الإيطالي ماسيمو داليما، والمنسق الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، والمنسق الخاص للجنة الرباعية الدولية (الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا) توني بلير، ومساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد وولش.. والمتوقع وصول كوندوليزا رايس نفسها ولنفس الغاية إلى الشرق الأوسط بعد خمسة أيام.

وبالعودة إلى زيارة فاروق الشرع الآنفة الذكر إلى «الفاتيكان» فإن السؤال الذي يخطر على البال ويتردد في الذهن هو: هل أن للكرسي الرسولي يا ترى دور فاعل في لبنان بالفعل وبخاصة لجهة الانتخابات الرئاسية.. وما حدود هذا الدور وهل سيكون إيجابياً أم سلبياً أم ماذا..؟!

وبداية فإنه لا بد من الإشارة إلى أن «الفاتيكان» ، الذي تتأثر بموقفه دول كثيرة أوروبية وغير أوروبية، في مقدمتـها فرنسا، كان دائماً وفي كل العهود، يعتبر نفسه مسؤولاً، أدبياً ودينياً وسياسياً، عن موارنة لبنان بصورة خاصة وعن المسيحيين بصورة عامة، وهو كان قد تحمــل هذه المسؤولية مـرات عدة من بينها خلال الحرب الأهلية (المذبحة) في عام 1860 وبعد ذلك خلال معركة الاستقلال وظهور الدولة اللبنانية الحالية بمعادلتها الطائفية الحالية ثم خلال حرب عام 1958 الأهلية وخلال الحرب الأهلية الأخيرة وعشية مؤتمر الطائف المعروف وخلاله وبعده.. وهذا أمر تعرفه سوريا تمام المعرفة ولذلك فإنها بادرت إلى إرسال نائب رئيسها فاروق الشرع إلى الكرسي الرسولي في روما برسالة رئاسية إلى الحبر الأعظم لا شك في أنها تضمنت تذكيراً بتفاهم دمشق مع الزعماء الموارنة التاريخيين بيار الجميل وكميل شمعون وسليمان فرنجية قبل تدخلها العسكري المعروف في لبنان في عام 1976.

لا يمكن أن يقف «الفاتيكان» مكتوفاً وعلى الحياد وهو يرى كل هذا التدخل الإيراني، وبالتالي السوري، السافر في الشؤون اللبنانية، وحتى وإن كان هذا التدخل يتدثر بعباءة الجنرال ميشال عون وعباءة زعيم قوات المردة الجديد سليمان طوني سليمان فرنجية، فالموقف الماروني المُعتمدْ في مثل هذه الحالة هو موقف «بكركي» وموقف البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وليس موقف المتحالفين مع حزب الله ليس اللبناني وإنما في حقيقة الأمر «الإيراني» تحت ضغط عطشهم الشديد لمنصب رئاسة الجمهورية.

ربما أن بنديكتوس السادس عشر قرأ رسالة الرئيس بشار الأسد التي حملها فاروق الشرع باهتمام واحترام شديدين وربما أنه قدر عالياً التعامل الرسمي السوري مع الأقلية المسيحية، التي هي والأقلية العلوية والأقلية الدرزية، تشكل عنوان التعددية الثقافية في سوريا، لكنه بالتأكيد لن يتبنى سوى وجهة نظر البطريرك مار نصر الله صفير التي كان قد أعلن خطوطها العامة مراراً وتكراراً والتي تختلف في أساسياتها، بالنسبة لاستحقاق انتخاب رئيس الجمهورية الجديد الذي من المفترض أن يخلف الرئيس الحالي إميل لحود، في أمور كثيرة عن وجهة النظر السورية.

عندما تكون سوريا متحالفة مع إيران الولي الفقيه والحرس الثوري وفيلق القدس وحزب الله وتتدخل هي وحليفتها تدخلاً سافراً في الشؤون اللبنانية الداخلية وفي شؤون المسيحيين والموارنة، فإنه من المستحيل أن يقف «الكرسي الرسولي» على الحياد، وإنه من المستحيل أن يتعاطف «الحبر الأعظم» حتى مجرد تعاطف مع وجهة النظر السورية المتعلقة بالوضع اللبناني الذي يعيش الآن مأزقاً حقيقياً، إن هو استمر فإنه قد ينتهي إلى عودة الحرب الأهلية الكريهة المدمرة، ولهذا فإن المؤكد أن مهمة فاروق الشرع هذه قد انتهت إلى ما كانت انتهت إليه مهمة «رفيقه» طارق عزيز الذي أرسله صدام حسين إلى بابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس الثاني في بدايات عقد تسعينات القرن الماضي لتسويق استعداد بغداد للاعتراف بإسرائيل مقابل تدخلها لوقف الهجوم الأميركي المبيت على بلاده.

في ذلك الوقت تدخل بوش (الأب) وأحبط ذلك المسعى العراقي الذي يشبه المسعى السوري الأخير وحال دون استمرار «الفاتيكان» بتلك الوساطة التي كان قد رحب بها الإسرائيليون منذ أن سمعوا بها في فترة سابقة من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي كانت قنوات اتصاله مع الإسرائيليين والعراقيين و«الكرسي الرسولي» مفتوحة وسالكة وآمنة.