يوم انتقلت نيران الجحيم إلى الأرض

TT

مرت علينا قبل يومين الذكرى السادسة لـ11 سبتمبر 2001، اليوم الأشد سوادا في التاريخ المعاصر، منذ ذلك اليوم جرت تحت الجسور دماء كثيرة في أفغانستان والعراق ولبنان والسعودية وفلسطين ولندن وإسبانيا وباكستان وأماكن أخرى. ما زلت أذكر بكل الألم ذلك اليوم، من المستحيل للأسف أن يغيب عن ذاكرتي، أنا أستخدم جهاز التليفزيون كمنوم طبيعي ليست له آثار ضارة، أرقد على سريري أو أجلس على مقعد مريح أمام الشاشة الصغيرة فأنام وعندما يتعطل الجهاز أصاب بالأرق.

في ذلك اليوم المشؤوم استيقظت على صورة بغير موسيقى تصويرية لطائرتين تقتحمان برجين كبيرين، شعرت بالاستياء، هو فيلم بالطبع من أفلام هوليوود، تساءلت: ألن يكف هؤلاء الناس عن إنتاج هذا النوع من من الأفلام المدمرة للعقل والنفس؟ استغرق الأمر لحظات تنقلت فيها بين المحطات قبل أن أدرك أن ما أراه ليس فيلما من أفلام الكوارث بل هو واقع كأسوأ ما يكون عليه الواقع، إنه ذلك النوع من الواقع الذي يحمل كل ملامح ومواصفات الكوابيس. مضت أيام قبل أن اصدق أن هذا الذي حدث، قد حدث فعلا، وعندما طلب مني أن أصفه قلت: لا توجد في كل لغات العالم كلمات تصلح لوصفه.. هذا مشهد انتقل من الجحيم إلى الأرض لأسباب لا نعرفها.

ابتهلت إلى الله ألا يكون الفاعل منا، وبعد أيام قليلة استطاعت أجهزة التحري في أمريكا التعرف على شخصيات الجناة في الوقت الذي كان فيه كل من حولي يتهمونهم بالتلفيق، استدعيت لحضور ندوات تليفزيونية كان الهدف منها هو أن يشتمني المشتركون فيها لأنني أقول إن ما حدث، قد حدث فعلا، وإن أصحاب الأسماء التي كشفتها أجهزة الأمن الأمريكية هم فعلا من قاموا بارتكاب ذلك الحادث الذي ستكون له آثار خطيرة علينا وعلى كل سكان الأرض.

كتابة الدراما تعلمك أن تستوعب ما حدث في المشهد السابق فتظهر لك على الفور ملامح المشاهد التالية، قلت لمحرر جريدة النيويوركر: أريدك أن تتخيل سيارة تصطدم بجدار صدمة مروعة، سيكون من السهل على المعمل الجنائي أن يكتشف آثار السيارة على الجدار، كما سيكتشف آثارا من الجدار على جسم السيارة، هذا هو ما سيحدث بالضبط لنا ولكم بسبب هذا الصدام الصدمة، ستأخذون منا بقدر ما نأخذ منكم.. ستمشون في طريق الاستبداد من خلال قوانين مستمدة من حياتنا نحن ومن استبدادنا نحن وذلك لحماية أرواح وممتلكات أهلكم، بينما سنضطر نحن لمحاربة التخلف والإرهاب وذلك بالمزيد من الانفتاح على الحرية وحقوق الإنسان.. حقوق الإنسان الفرد ستتناقص عندكم بفعل كل القوانين الحمائية اللازمة لمكافحة الإرهاب.. بينما ستتسع دائرتها عندنا.. الشك والريبة وهما من أخص طبائعنا ستنتقلان إليكم ربما بشكل مبالغ فيه.

نحن نشك فى كل الناس بل في أنفسنا، هذا نوع خفيف من البرانويا أنتم في حاجة إليه..أنتم بالفعل في حاجة لقدر ولو ضئيل من البرانويا الكافية لحماية أنفسكم.. يا رجل.. شباب أغراب يتعلمون الطيران في معهد، يتعلمون الإقلاع فقط ولا يهتمون بتعلم طريقة الهبوط.. ألم يلفت ذلك نظر أحد في المعهد.. لو أن ذلك حدث في بلد من بلداننا لأبلغ عنهم فراش المعهد ضابط مباحث أقرب قسم شرطة.

بعد شهور اتضح لي أنني كنت مخطئا في تحليلي لغياب المعلومات الكافية لفهم ما حدث، اتضح أن سيدة عميلة للمباحث الأمريكية مكلفة بالمنطقة ( Field agent) كتبت تقريرا من 19 صفحة ورفعته لرؤسائها عن شبان من الشرق الأوسط يتعلمون الطيران فقط بغير أن يتعلموا الهبوط، غير أن رؤساءها لم يهتموا بالتقرير، من الواضح أن رئيسها في الجهاز كان قد فقد ما يسمى أنف الجاسوس (The spy nose). السيدة في الموقع بعيدا عن المكاتب لديها حدس أمني قوي للغاية، بينما رئيسها في المكتب كان موظفا بليدا، ونتيجة لبلادته فقدت بلاده أكثر من 3000 قتيل وفقد العالم بعدها مئات الآلاف من القتلى، لو أنه أرسل أحد مخبريه لتغطية ما يحدث في الموقع والتحري عن هؤلاء الأشخاص، لمشى التاريخ في اتجاه آخر.

أنا أعتقد أن تقرير هذه السيدة اليقظة كان السبب في السرعة التي اكتشفوا بها شخصية الجناة، لا بد أن أحدهم صاح: آه.. دي الست فلانة كانت كتبت تقرير عن شبان بيتعلموا الطيران.

بعد ذلك تم الكشف عن الخطأ الثاني الذي لا يقل فداحة عن الخطأ الأول، اتضح أن المخابرات الأمريكية أبلغت المباحث الأمريكية بضرورة متابعة بعض الأشخاص من المجموعة الانتحارية غير أن هذا الطلب تحول إلى مجرد ورقة على مكتب ما. إنه الصراع التقليدي بين أجهزة الأمن الداخلي والخارجي في دول العالم كله.. الإهمال في العمل الأمني أكثر من جريمة.

ما أفزعني حقا هو عدد الناس السعداء حولي بما حدث، أخطر ما يحدث للناس في التاريخ هو أن يفقدوا المعايير الحقيقية للحياة ذاتها، هم لم يفكروا في المصائب والكوارث التي سيتعرض لها العرب والمسلمون في بلاد الغرب من جراء هذا الحادث، هم كارهون إلى الدرجة التي تم عندها تعطيل عقولهم. وظهر سؤال: لماذا يكرهوننا؟

وحتى الآن لم يتنبه أحد إلى أن الإجابة هي: هم يكرهونكم ويكرهوننا ويكرهون كل ما ينتمي لهذه الدنيا.. الحياة بالنسبة لهم تحولت لعبء ثقيل، فكان لا بد أن يمتلئوا بالشر الخالص أو ما يعرفه أطباء النفس المعالجون بالغيرة المرضية (Pathological jealousy)، أنا أفهم أن يقوم ماكبث بقتل الملك والقيام بسلسلة مذابح بعد ذلك من أجل الوصول إلى السلطة، ولكن ماذا عن ياجو في مسرحية عطيل؟

لماذا نسج هذه المكيدة الجهنمية التي أقنع بها عطيل أن زوجته التي يحبها وتحبه تخونه، إنها الغيرة المرضية من هذا القائد العسكري المنتصر وعلاقة الحب التي تربطه بزوجته الشابة الجميلة.

إنني أستطيع أن أسرد عليك عشرات الحوادث البشعة المستقاة من صفحة الحوادث في الجرائد عما يمكن أن تفعله الغيرة المرضية بالبشر.

ياجو ليس مجرد شخصية في مسرحية، هو نموذج من البشر، عظيم الشر حاد الذكاء ربما شاهدته واستمعت إليه على شاشة التليفزيون وهو يلقي بيانا امتلأ بالأكاذيب. هو شخص يشعر بقدر عال من التعاسة الناتجة عن شعوره بالضآلة، وبأنه غير صالح للحياة وأن الحياة ليست صالحة له. كل التعاليم والأفكار التي تحقر من شأن الحياة لا بد أن تتحول في نهاية الخط إلى إرهابيين يقتلون الناس لكي يضمنوا أن يقتلهم الأحياء، وبذلك يتخلصون من عبء الحياة.. إن وظيفتنا ومهمتنا الحقيقية، نحن الكتاب والفنانين والعلماء والمفكرين، ألا نكف عن تحريض الناس على حب الحياة وتبجيلها، وأن يضيفوا إليها في كل لحظة لمسة حب ورقة وتهذيب.