اللاجئون

TT

في مذكرات أحد البحارة قرأت هذه الفقرة: بينما كانت سفينتنا تقترب من قناة بنما، فجأة وإذا بعدة عصافير صغيرة تقتحم علينا (كابينة) القيادة، وتتجول طائرة فيها، ورفع أحد الضباط يده فحط عليها بعض العصافير، وحط اثنان منها على قضيب، واقتربت منها وبسطت كفي فقفزت عليها وأخذنا العصافير إلى أسفل، وأطعمناها بعض فتات الخبز والحبوب، وبعد أن أكلت وشبعت طارت، غير أنها لم تحاول أبداً الخروج من الشبابيك المفتوحة، وإنما تجمعت على مائدة القبطان، وأدلت برؤوسها وأرخت أجنحتها ونامت.

وعندما صعدنا إلى ظهر السفينة، وأخذنا نقص على بعض المهندسين هذا الحادث الغريب، رفعت رأسي فجأة بدون قصد وعرفت السبب الحقيقي من كل ذلك.

فقد كانت تقف هناك على أعلى سارية السفينة ثلاثة صقور بحرية فتاكة. وفي صباح اليوم التالي، غادرنا ضيوفنا من العصافير الصغيرة بعد أن تأكدت أن الصقور قد رحلت بعد أن يئست من خروج العصافير.

يعني العملية وما فيها ما هي إلا عملية التجاء، ولكنه غير سياسي، وهو على أية حال (أبرك) من الالتجاء السياسي الذي هو (قاصمة الظهر)، وهو (الدليل القاطع) على أن بعض الحكام الظلمة انما يتمتعون بمخالب أمضى من مخالب الصقور، غير أن الصقور (القنوعة) تأكل حسب حاجتها، أما أولئك فيأكلون ويفصفصون العظام ويشربون الدماء ولا يشبعون ولا يرتوون، والهارب من جحيمهم كالمعتوق من النار.

فاللجوء السياسي وغير السياسي طريق يائس وكئيب، نراه يتسع ويكتظ باللاجئين يوماً بعد يوم، فعذاب الغربة أرحم من ظلام السجون والتعذيب والقتل في داخل الوطن.

ما أصعب أن تهرب مفارقاً أبناءك أو أهلك، وأصحابك، وبلادك وترابك وذكرياتك وأحلامك وأمانيك دفعة واحدة، ثم لا تجد أمامك غير الضياع، بسبب انك لا تقبل الظلم ولا ترضى بالعبودية. ولكي لا (نغثكم) أكثر، فدعونا نهرب من اللجوء السياسي وكل ملابساته وأجوائه المحزنة، ونرجع إلى عالم الطيور، والصيد بواسطة الصقور ـ أو ما يسمى (بالقنص).

وقد حاول بعض المعارف ممن يهوون هذه الرياضة أن أشاركهم فيها، وكنت اعتذر دائماً بلطف وبشدة، رغم انني أهوى الصيد، غير أن صيدي يختلف عن صيدهم، ووسائلي تختلف عن وسائلهم، وغاياتي تختلف عن غاياتهم، هم يعشقون الدم، وأنا أعشق الشهد.

وقال لي أحد (الصقارين) انه في أحد مقانيصه، وعندما (هد) ـ أي أطلق ـ صقره على الحبارى وأخذ يطاردها، فلم تجد لها المسكينة من مهرب ولا ملجأ غير سيارتنا، وفوجئنا بها تتجه إلى نافذة السيارة (وتكفت) ـ أي تدخل ـ من خلالها، وتختبئ تحت أقدامنا.

ويمضي قائلا: إنني تأثرت من هذا الحدث، وأمسكت بالصقر و(برقعته)، وأطلقت الحبارى في حال سبيلها، غير أن تعيسة الحظ ما كادت ترتفع في كبد السماء، وإذا بصقر آخر أطلقه زملاؤنا من سيارة أخرى بعيدة، فيلحق بها وينقض عليها ويمزقها.

هل هذه هي الحياة؟! لا أدري.

[email protected]