هل أوشكت الحرب؟

TT

التوتر الشديد بين سورية وإسرائيل يتطلب حذرا شديدا في الكتابة عنه، خصوصا إذا كنا نتكلم عن حرب محتملة لا عن سلام مرتجى في مؤتمر الخريف القادم. بداية، لا أختلف مع مقولة إن كلا من سورية وإسرائيل لا تريدان الحرب. ولكن في هذا الجو المليء بالشك المتبادل، هناك مساحات كبيرة لسوء الفهم وإساءة قراءة النوايا، مما قد يفجر الوضع ويقود إلى حالة حرب لم تكن في حسبان أي منهما. من الواضح أن كلتا الدولتين لا تطمئن أي منهما إلى نوايا الأخرى. فإذا حاول السوريون مثلا تحديث أسلحتهم رأت تل أبيب في ذلك تأهبا لعدوان عليها، وإذا قام الإسرائيليون بتدريبات في الجولان السوري تخوفت دمشق من استعداد لحرب عليها، كما حدث منذ شهرين.

الاختراق الإسرائيلي الأخير للأجواء السورية لا يمكن قراءته إلا في إطار الشكوك المتبادلة. معظم التقديرات الاستخباراتية ترى أن الضربة الإسرائيلية الأخيرة أصابت إما بطاريات صواريخ سوريّة أو شحنة أسلحة إيرانية في طريقها إلى لبنان. وتقول بعض الدعايات التي أظنها مضللة إنها مواد نووية من كوريا الشمالية. بغض النظر، فإن وجود صواريخ أو أسلحة متطورة في بلد كسورية يعتبر مصدر تهديد، حسب الرؤية الإسرائيلية، ومبررا لأن تقوم قوات الجو الإسرائيلية بالتخلص من هذه الأهداف.. رؤية تنم عن سوء فهم أو سوء نية، فليس كل تحرك عسكري في دولة ما هو تهديد مباشر لدولة جارة، خصوصا أن الجبهة السورية جبهة منضبطة منذ اتفاق الهدنة عام 1973. وكلنا يذكر كيف صعّد الإعلام الإسرائيلي التوتر عندما حركت سورية الفرقة الرابعة عشرة في يوليو (تموز) عام 1996، بشكل مفاجئ من بيروت شرقا باتجاه جبل الشيخ. لم يكن لدى الاستخبارات الاسرائيلية في حينها تفسير لهذا التحرك سوى أن سورية تعد لضربة خاطفة.. تحرك أقلق الإسرائيليين كثيرا وقتها، وقد ثبت بعدئذ أنه كان تحركا عاديا ولم ينتج عنه أي شيء. إن كان مجرد تحريك فرقة عسكرية سورية يثير شكوك الإسرائيليين بنوايا سورية عدوانية، فلا بد أن الضربة الإسرائيلية الأخيرة في الأراضي السورية (تلخبط) كل حسابات دمشق.

حتى هذه اللحظة، يتكتم الطرفان على حقيقة ما حدث. تكتمُ الإسرائيليين مفهومٌ في إطار (الغموض الخلاق) الذي يجعل الأطراف الإقليمية جميعها تحذر وتخمن حول قدرة الجيش الإسرائيلي الاستخباراتية والعسكرية. أما التكتم السوري فيفهم في إطار عدم كشف الأوراق. الموقفان يسهمان في زيادة أجواء الشك وسوء القراءة، مما قد يدفع بالطرفين إلى الانزلاق لهاوية الحرب.

لو كانت هناك حسن نية لدى الإسرائيليين في هذه الحادثة الأخيرة، لكان من الممكن أن تقول تل أبيب للسوريين، مباشرة أو عن طريق أطراف إقليمية أو دولية أخرى (اسبانيا مثلا)، إن لدينا معلومات استخباراتية محددة تقول إن هناك شحنة قادمة من إيران (مثلا) تحتوي على كمية من الأسلحة من نوع كذا أو كذا وهذه أرقامها. إذا كانت هذه المعلومات مؤكدة، فليس من الوارد أن ينكرها السوريون. أي إجراء تتخذه سورية في هذه الحالة، سيكون إما مفتاح حرب أو سلام. أي إما أن يقر السوريون بالأمر ويوقفوا الشحنة، فتفهم تل أبيب هذا على أنه رغبة سورية في السلام، أو أن يتجاهل السوريون الأمر، فيفهم الإسرائيليون ذلك على أنه عدم رغبة في الحوار أو السلام.

التوتر الحالي بين الدولتين في هذا السياق الملتهب إقليميا يجعلنا أقرب إلى الحرب منا إلى مؤتمر السلام في الخريف القادم. ربما المؤتمر ذاته هو الذي يدفع إسرائيل إلى الحرب للهروب من مستحقات السلام التي قد يفرضها عليها الرئيس الأميركي جورج بوش في نهاية رئاسته. فبوش لم يعد يحتاج إلى أصوات أنصار إسرائيل في انتخابات رئاسية قادمة لن يخوضها، كل ما يهمه هو دخول التاريخ من خلال تطبيق رؤيته بحل الدولتين، إسرائيل وفلسطين. وإسرائيل تتخوف من أن تفرض الولايات المتحدة هذا الحل عليها في مؤتمر السلام المقبل، خصوصا أن العرب ما زالوا ملتزمين بمبادرتهم التاريخية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت.. لذا قد تجد إسرائيل نفسها محاصرة بتقديم تنازلات مؤلمة ولا فكاك منها إلا بتفجير الوضع الإقليمي لتشغل به الإدارة الأميركية في شهورها القليلة المتبقية.

السيناريو السابق هو واحد من خمسة سيناريوهات قد تؤدي إلى حرب قريبة. بعض السيناريوهات مرتبط بعلاقة الطرفين المباشرة (سورية وإسرائيل)، وبعضها مرتبط بالعلاقات غير المباشرة، أو مرتبط بالتدهور الإقليمي العام.

هناك تكهنات من داخل إسرائيل، بأن الصواريخ الفلسطينية التي أطلقت على مركز التدريب العسكري في إسرائيل، كانت مختلفة هذه المرة عما يسميه أفخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، بـ«الصواريخ محلية الصنع»، وأن هذه الصواريخ قادمة إما من سورية أو إيران.. ومن هنا بدأت المقارنة في إسرائيل بين قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس، والجنوب اللبناني تحت سيطرة حزب الله.

في هذا السيناريو، يظن الإسرائيليون أن سورية هي المحرك للحرب القادمة من غزة، بنفس الطريقة التي يرون بها أن سورية ومعها إيران حركتا حزب الله في حرب يوليو الأخيرة. ولأن الجيش الإسرائيلي ما زال يحاول ترميم سمعته بعد هذه الحرب، فإنه قد يرى في شن غارات انتقامية على سورية لاشتباهها بدورها في دعم حماس بالصواريخ، فرصة لتلميع صورته في الداخل الإسرائيلي، خصوصا أن سورية ليست كحزب الله، فهي دولة لها عناوين ثابتة من قصور ووزارات وأجهزة دفاع ومواقع عسكرية يمكن استهدافها واستخدام الضربة الإسرائيلية كترويج لهيبة الجيش الإسرائيلي.

سيناريو آخر محتمل إقليميا قد يؤدي إلى حالة الحرب، وهو يخص الملف النووي الإيراني. في هذا السيناريو قد تحدث ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية، ولن يعرف من قام بها هل هي طائرات أميركية أم إسرائيلية. يسود الصمت في واشنطن وتل أبيب، وتحاول طهران الرد من خلال استخدام حزب الله. قد تجر سورية أيضا إلى الحرب إذا ما تصاعدت ما سماها قائد القوات الأميركية في العراق ديفيد باترييس، «حربا بالوكالة» في شهادته أمام الكونغرس الأميركي بين أنصار إيران في العراق والولايات المتحدة، لتصبح مواجهة مباشرة. هناك تقارير جادة تقول إن جورج بوش سيوجه ضربة استراتيجية لإيران في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، أي قبل نهاية ولايته، خصوصا أنه يريد إكمال مهمته فيما سماه القضاء على «محور الشر». فقد نجح بوش من وجهة نظر مؤيديه في إنجاز مهمته اتجاه ضلعين من المثلث: القضاء على صدام حسين، وإنهاء قضية الملف النووي لكوريا الشمالية، ولم يبق أمامه سوى ضرب الضلع الثالث المتمثل في إيران.

السيناريو الرابع يخص حرب الصيف الأخيرة بين إسرائيل و حزب الله. القيادة السورية أعلنت مرارا وتكرارا أن استرجاع الجولان والنضال ضد الاحتلال قد يأخذ أشكالا عدة، ولمحت إلى نجاحات حزب الله في الجنوب اللبناني واحتمال استنساخ التجربة في الجولان المحتل، خصوصا أنه بعد تلك الحرب، فإن رسائل إسرائيل عن تفوقها العسكري وقدرتها على الردع لم تعد تلقى ذات الاهتمام في دمشق مما قد يؤدي إلى حسابات خاطئة. فقيام جماعات من الجولان بشن هجمات على إسرائيل، سيدفع إسرائيل بلا شك إلى ضرب الأراضي السورية، وقد يكون مقدمة لحرب محتملة.

سيناريو الحرب الوارد أيضا، أن يفخخ حزب الله الوضع في لبنان، وتسقط حكومة فؤاد السنيورة. الجيش اللبناني والقوات الدولية الموجودة في لبنان لن يتمكنا إن حدث هذا من ردع حزب الله. ومن البديهي أن يتم دعمه بالأسلحة من سورية وإيران. هنا ستتدخل إسرائيل لضرب هذه الشحنات من الأسلحة في داخل سورية قبل وصولها إلى حزب الله.. وهذه مقدمة أخرى لحرب محتملة.

هذه مجرد سيناريوهات. ولكن في جو مشحون بالشكوك المتبادلة وفي ظل التعقيدات الإقليمية القائمة، الجميع يبحث عن مخرج من جملة الأزمات الداخلية والخارجية الخانقة. وبما أن السلام يبدو بعيد المنال، كما تشير التصريحات قبل مؤتمر الخريف، فالخوف أن تكون الحرب هي المخرج الوحيد.