متى يعي اللبنانيون أن أوان «التشاطر» انتهى؟

TT

يجوز القول الآن أن الوضع اللبناني وصل إلى نقطة أضحى معها من الواجب على اللاعبين المحليين وقطعانهم .. التوقف، ولو لبرهة، للتفكر في ما يحدث من حولهم.

ثمة حقائق مرّة أنا متأكد أن كثيرين من اللبنانيين لا يريدون مواجهتها .. مفضلين أن يظلوا في غيّهم سادرين .. وأنفسهم خادعين ..

الحقيقة الأولى أن الاتصالات والتحركات الدولية المحمومة من حولهم تحت عنوان تسوية الأزمة اللبنانية لا علاقة لها بحجم لبنان أو وزنه، بل بموقعه الحساس وتركيبته الهشة، مما يجعله فتيل تفجير خطيراً متصلاً بعبوة ضخمة مدمرة تمتد بطول منطقة الشرق الأدنى. فلبنان هو «الأرض المنخفضة» التي ـ كما يقول المثل الشعبي «تشرب مياهها ومياه غيرها»، وهذا يعني في الكلام السياسي إنها نقطة الضعف الإقليمية التي تُرسل عبرها الرسائل، وتمارس على أنقاض سيادتها الابتزازات، وتجرّب فيها الأسلحة، وتصفّى الحسابات العدائية على جثث سكانها وأنقاض بيوتهم ومصالحهم ومستقبل أولادهم.

والحقيقة الثانية، أن هناك جماعات داخل البيئة المسيحية ما زالت تتصوّر أنها الرابحة من حالة الانقسام الشيعي ـ السنّي في لبنان، وجماعات أخرى تعمل بالتنسيق والتفاهم مع مناخات طائفية جارة ترى أن «العدو الحقيقي» للمسيحيين هو السنّة والسنيّة السياسية. ويجمع هاتين الجماعتين اعتبارُهُما أن «السنيّة السياسية» استفادت من «اتفاقات الطائف» على حساب المسيحيين، وبالتالي، لا بد من التحالف مع «الشيعية السياسية» للانقلاب عليها وعلى «الطائف» لإلغاء مفاعيله. هنا جوهر مواقف رئيس الجمهورية إميل لحود، ومضمون خطاب النائب ميشال عون، وحرص «حزب الله» ـ «كفيل» رئيس الجمهورية ـ على التمويه على خياره بالنسبة لشاغل منصب الرئاسة المقبل. لكن الطريف أن عون ـ الذي يزعم أنه «مرشح توافقي» بينما هو «مرشح تراشقي» ـ ما زال يتوهّم أن «حزب الله» و«حركة أمل» من السذاجة أو «المازوشية» إلى حد ترشيحه للرئاسة .. بشروطه .. وبصلاحيات ما قبل «الطائف» التي يحلم بها!

والحقيقة الثالثة، أن ثمة قوى فاعلة على الساحة اللبنانية، وبالذات من المعارضة، تحاول خداع الجميع بإبداء استعدادها لـ«التوافق» في حين أن مشروعها الحقيقي هو الهيمنة. بل إن قرار هذا البعض جزء من مشروع إقليمي ما عاد متيسراً تجزئته. وكما سبق لي القول في هذه الزاوية، أنه على امتداد تاريخ لبنان لم يسعَ أي فريق لبناني إلى التقسيم ـ الذي يعني الانكفاء دفاعاً عن النفس ضمن منطقته ـ إلا عندما يئس من احتمال التغلب على الآخرين.

فعام 1982 كان بشير الجميل يطالب بـ«لبنان الـ10452 كلم مربع» ـ أي كل لبنان ـ. و«حزب الله»، الذي لديه اليوم أكثر حتى مما كان لبشير الجميل عام 1982 من سلاح وأموال وبنى تحتية و«مناطق مقفلة» وشبه احتكار طائفي، مشروعه الحقيقي الهيمنة على لبنان كله، لكنه يناور بذكاء مؤجلاً كشف سياسته كاملة إلى فترة قادمة يتعزّز فيها أكثر وضعه الديموغرافي والتسليحي والمالي مقابل تراجع أوضاع خصومه. ولهذا السبب لا يرى الحزب، بألسنة قادته، أي مشكلة في «الانتظار لمدة سنتين» مثلاً، يؤسس ويرعى خلالها دمى وعملاء في البيئتين المسيحية والدرزية تكون مهمتها افتعال حرب أهلية داخل كل من البيئتين .. أو تعملان على تحييدهما. وهكذا يصار إلى تجريد البيئة السنيّة من الإسناد المسيحي والدرزي من دون الحاجة إلى خوض معركة مفتوحة مع السنّة .. ستسيء حتماً إلى صورة الحزب والكتلة الشيعية في العالم العربي والإسلامي الأوسع.

والحقيقة الرابعة، أن دمشق، ومعها ما تبقى من الجهاز الأمني الذي صنعته وركزته في لبنان طيلة ثلاثة عقود، ما زالت ممسكة بعدد من آليات التحريك السياسي في الساحة اللبنانية. وما لم تقتنع دمشق بأن من مصلحتها على المدى البعيد وقف اللعب بالسلاح الطائفي الفتاك، فإن الانفجار المرتقب لن يوفر أحداً داخل لبنان أو خارجه.

دمشق تتصرّف راهناً وكأنها غير معنية بالاحتقان، في حين أنها تغذّيه وتفشّل كل من يسعى لتبديده. وهذه سياسة معروفة ومالوفة استوعبها اللبنانيون منذ 1977، لكن معطيات الساحة اليوم أخطر بكثير والرهانات أعلى بكثير.

والحقيقة الخامسة، إلحاقاً بما سبق، هي ان لبنان مرشح لأن يتحول إلى «بيذق» شطرنج يمكن تحريكه لإحداث تغيير استراتيجي على رقعة الاصطفاف الإقليمي.

ومن واقع الغارة الإسرائيلية الأخيرة على الاراضي السورية وما رشح عنها، والقراءة الأميركية خلال الأسبوع الفائت للوضع في العراق، سيكون مفيداً للجميع الإحجام عن الاندفاع إلى خطوات غير محسوبة.

فواشنطن قد لا تكون متخوفة من تعاظم حضور إيران لكنها حتماً ترى مصلحة في تحجيمه. وإسرائيل ما زالت تدعم بقاء الحكم الحالي في سورية لكنها قد لا ترضى بأن تظل صيغة الابتزاز الأمني مرادفاً دائماً لحسن الجوار. وتركيا، أو بالأحرى مؤسستها العسكرية، ما زالت معتصمة بصمت مريب يزداد ريبة مع تزايد ميل نبض الشارع بعيداً عن العلمانية و«التتريك» باتجاه الأسلمة. و«حزب الله» صار لاعباً أساسياً في الملعب اللبناني ورديفاً عسكرياً مهماً لسورية ولإيران في وجه إسرائيل، لكن أي عدوان إسرائيلي عنيف يستهدف الداخل اللبناني رداً على أي عملية مستقبلية منه .. سيؤكد مخاوف باقي اللبنانيين من حقيقة سلاحه والغاية من احتفاظه به.

بإزاء هذه الحقائق المزعجة، ألم يحن الوقت لكي يكفّ اللبنانيون عن لعبة «التشاطر» العبثية؟

ألم يحن الوقت لبناء دولة حقيقية فوق الدويلات .. وفوق المشاريع الطائفية المحلية والإقليمية؟

ألم يحن الوقت لاعتبار «الطائف»، نصاً وروحاً، القاسم الأدنى المشترك .. بل فرصة البقاء الأخيرة؟