ابن جلا وطلاع الثنايا

TT

من سوء حظوظ العراقيين، وهي كثيرة، أن اسم بلدهم «العراق» ينسجع مع الشقاق والنفاق. وكان الحجاج بن يوسف الثقفي أول من استثمر هذه السجعة عندما خاطبهم قائلا: « يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق».

ما أن توفي زياد بن أبيه حتى عاد القوم الى سابق شقاقهم ونزاعهم وثوراتهم، فبعث عبد الملك بن مروان الحجاج واليا عليهم. وكان قد أظهر من الحزم ما فيه الكفاية في ولايته على الحجاز. فضلا عن ذلك، كان خطيبا مفوها وظريفا ساخرا. ما أن جمع القوم في مسجد الكوفة ليعلن لهم ولايته حتى بدأوا برشقه بالحجارة والنوى والشتائم الساخرة، فأمر الجند بغلق أبواب المسجد ثم انطلق يخاطبهم بتلك الكلمات التي خلدت عبر العصور:

أنا بن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

قال، ثم مضى متوعدا: «أما والله يا أهل الكوفة، إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله. إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها. وإني لأنظر الى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى».

وعاد يعمل سيفه فيهم ويقول: «يا أهل العراق! إن الشيطان قد استنبطكم، فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع، والأطراف والأعضاء، ثم أفضى الى الأخماخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشعش، ثم باض وفرخ، فحشاكم شقاقا ونفاقا، وأشعركم خلافا، واتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤمرا تستشيرونه...».

قطعة من أروع ما في أدب الخطابة. وأمام الحزم والشدة التي مسكهم بها، لم يروا غير أن يحلموا بموته، كما حلموا بموت صدام حسين. فراجت الإشاعة بينهم بموت الحجاج. سمع بها فصعد المنبر ليجلدهم بلسانه ثانية:

«إن طائفة من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزغ الشيطان بينهم فقال: مات الحجاج. وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت! والله... ما رأيت الله رضي بالتخليد إلا لأهون خلقه عليه: إبليس... كأني والله بكل حي منكم ميتا وبكل رطب يابسا، نقل في ثياب أكفانه، الى ثلاث اذرع طولا في ذراع عرضا. وأكلت الأرض لحمه، ومصّت صديده، وانصرف الحبيب من ولده يقسم الخبيث من ماله».

راح الأدباء ينكتون عليه ويسخرون من بطشه وقسوته. حلف رجل على زوجته بالطلاق إن لم يذهب الحجاج لجهنم. ثم خشي من يمينه فقصد قاضي المعتزلة يستفتيه فقال له: ابق مع زوجتك. حتى إذا عفا العلي العظيم عن الحجاج لم يضرك إثم قسمك بالطلاق.

ولكن ومع ذلك، ولقرون طويلة ظل العراقيون يرددون كلما ألمت بهم الفتن والمحن فيقولون: وينك يا حجاج؟؟ تعال ما يحلها غيرك!

فبسيف الحجاج استقر الأمر بالعراق وعاد القوم الى أعمالهم وفرائضهم وواجباتهم. فازدهرت التجارة وعم الرخاء ومضت راية الإسلام في مسيرتها الفاتحة ووصلت ما لم تصل إليه من قبله ولا بعده في تخوم الهند والسند والأفغان.