السودان: انفتاح دولي.. وانسداد داخلي

TT

بعد زيارة بان كي مون للسودان تحسنت بشكل لافت للأنظار علاقات السودان مع المجتمع الدولي لأنه قبل بوضوح كل متطلبات إرسال القوات المشتركة لدارفور. وتبع ذلك القبول إعلان الأمين العام للأمم المتحدة توصله مع المفوض العام للاتحاد الأفريقي الى تحديد موعد بدء المفاوضات مع الحركات المسلحة في السابع والعشرين من الشهر القادم في ليبيا، كما أعرب عن ارتياحه التام للمفاوضات التي أجراها مع البشير وما أسفر عنها من اتفاقات خاصة بالمنشآت والأجهزة المتعلقة بالأمم المتحدة، وبعد زيارته لتشاد أكد موافقة رئيسها على نشر شرطة دولية في معسكرات اللاجئين السودانيين، الأمر الذي حسم الغموض الذي كان يكتنف هذه المسألة. وفي ختام زيارته لليبيا أشار الى أن معمر القذافي تعهد له بدعم قوي لتسوية نهائية في المفاوضات المقبلة.

وفي ذات السياق أطلق رئيس الوزراء البريطاني مبادرة حملها أحد الوزراء الى السودان، وفيها يبدي استعداده لتقديم المساعدات المطلوبة لإعمار دارفور وتسهيل تنفيذ اتفاق سلام جنوب السودان، كما عبرت فرنسا عن استعدادها لبذل كل جهد يمكن أن يفضي لمشاركة عبد الواحد محمد نور، رئيس حركة تحرير السودان، في مفاوضات السلام القادمة. كذلك رحبت واشنطن بما تحقق ولمحت الى إمكانية تحسن علاقاتها مع السودان ونوهت بزيارة لمساعدة وزيرة الخارجية جنداي فريزر قريبا للسودان مع رفع تدريجي للعقوبات المفروضة على السودان واستئناف عملها في بناء اكبر سفارة لها في الخرطوم هي الأكبر على نطاق القارة.

وفي نيويورك ابلغ الأمين العام مجلس الأمن انه على الرغم من التقدم الكبير الذي تحقق على طريق حل أزمة دارفور، فان الوقت قد حان لمضاعفة الجهود والسير بسرعة اكبر من اجل استثمار التعهدات وقوة الدفع الايجابية في وقف معاناة سكان الإقليم. وفي نفس الوقت أعرب عن قلقه العميق لتجدد القصف الجوي والمواجهات العسكرية في دارفور، وجدد مناشدة مختلف الأطراف التحلي بضبط النفس، تمهيدا للمفاوضات السياسية المقررة الشهر المقبل.

لقد كان واضحا منذ البداية أن كل الإنجازات التي تحققت من زيارة الأمين العام للسودان والمنطقة كانت تفتقر الى انتزاع التزام من كل الأطراف بوقف شامل لإطلاق النار، لأن في ذلك وحده تتوافر الضمانة لعدم حدوث أية انتكاسات وتتهيأ الأجواء المناسبة لإطلاق المفاوضات. ولذلك كان طبيعياً أن تتوتر الأجواء من خلال سعي كل الأطراف لكسب ميزات على الأرض من خلال استئناف هجمات مباغتة هنا وهناك قبل المفاوضات، وهذا ما ترتب عليه تهديد «حركة العدل والمساواة» بالانسحاب من المفاوضات المقبلة بعد اشتباكات لها مع القوات المسلحة، فضلا عن المزايدات التي لم تتوقف من بعض الحركات، خاصة حركة عبد الواحد محمد نور التي لم توافق بعد على المشاركة في المفاوضات وتشترط أولاً: نشر القوات المختلطة، ونزع سلاح الميليشيات، وتعويض المواطنين المتضررين أفراداً وجماعات، وهي حركة تتمتع بشعبية كبيرة داخل معسكرات النازحين واللاجئين بسبب رفعها شعار التعويضات أولاً، ولكون الحياة في المعسكرات نفسها أفضل حالاً من حياة البؤس السابقة وأكثر اغراء من العودة إلى المرابع القديمة، وهذا ما عجزت منظمات الإغاثة عن إدراكه أو تصديقه، ولهذا تبدو المسألة أكثر تعقيداً في تصورها وفي حلها ومما يجعل المفاوضات القادمة صعبة للغاية.

والحكومة من جهتها لم تتحل بضبط الأعصاب وإنما انساقت إلى حد ما في ذات توجهات الحركات المنفلتة فأعلنت انها بصدد ملاحقة ستة من قيادات المسلحين في دارفور بحسبانهم وراء شن هجوم على معسكر للشرطة في منطقة «ود بنده» في ولاية شمال كردفان، وأعلن وزير العدل عزم الدولة الاستعانة بالانتربول لجلبهم للمحاكمة. وبالطبع مثل هذا الاجراء يعرقل اجراء المفاوضات المرتقبة من جهة، ويتناقض مع موقف الحكومة لجهة التعاون مع الانتربول لكونها أعلنت مسبقاً رفضها ان تسلم عبره المطلوبين لمحكمة الجزاء الدولية!

هكذا يبدو ان الأفق الخارجي يتفتح شيئاً فشيئاً حول السودان، بينما انسدادات الداخل تزداد للأسف وتتسع لتتعدى دارفور وتشمل الجنوب ايضاً. فقد توترت العلاقات بين حزب البشير والحركة الشعبية لجنوب السودان على نحو لم تشهده من بعد توقيع اتفاق السلام، فلأول مرة يعلن سلفا كير، زعيم الحركة ورئيس حكومة الجنوب أن «جنوب السودان وشماله اقرب الآن إلى الحرب من السلام». ويتهم المؤتمر الوطني بأنه كان يعد للحرب في وقت حسبناه يعمل للسلام. ثم يعترف بأنهم هم ايضاً أعدوا واستعدوا للحرب. ويعدد الأسباب الموجبة للحرب ومنها ان الجيش الحكومي لم ينسحب من مناطق البترول في الجنوب كما ينص اتفاق السلام وان مجموعة من الجيش الشعبي في إحدى مناطق الشمال عوملت بغلظة وجردت من ملابسها العسكرية وأسلحتها الخفيفة، معتبراً ذلك استفزازاً لا يحتمل. فضلاً عن الخلافات حول رسم الحدود بين الجنوب والشمال. ومعلوم ان الكثيرين قد فوجئوا مما قاله سلفا كير في برلمان الجنوب عن الحرب المحتملة بين الجنوب والشمال، لأن أقصى ما كان يتوقعه الجميع هو أن تتعثر الوحدة ويتم الانفصال ويسعى الكل إلى تعايش سلمي بين جارتين صديقتين، خاصة ان الجانبين تعاهدا على ألا يعودا للحرب مرة أخرى. ولكن يبدو ان لعنة البترول في طريقها إلى اصابة السودان بحريق يطاله كله. ذلك لأن الخلاف على الحدود، خاصة في مناطق غنية بالبترول، يجعل إمكانية قيام دولتين دون فرز مقنع لتلك الحدود مستحيلاً وأن الحروب واردة لا محالة.

وهكذا تبدو لعنة البترول هي الخيار الجاذب إذا تعذرت الوحدة، وهو خيار يتعدى الانفصال ويجنح نحو الحرب من جديد وعلى نحو أكثر ضراوة، مدعوماً بتدخلات دولية وإقليمية. والخلاصة هي إما أن يعي الجميع أنه لا مخرج إلا بالتغلب على كل العقبات التي تقف في طريق الوحدة، أو أن يذهب السودان إلى محرقة النفط.