مشروع يقنن التطهير العرقي في إسرائيل

TT

ثمة تسريبات صحفية متواترة تتحدث عن اتفاق مبادئ بين اولمرت وأبو مازن يجري طبخه الآن تمهيداً لتقديمه الى مؤتمر السلام المفترض عقده في شهر نوفمبر المقبل. وهناك من يقول إنه لن يكون اتفاق مبادئ، ولكنه سيصاغ بحسبانه بياناً مشتركاً يحدد القواعد والمبادئ التي يمكن على أساسها تحقيق دفعة لمسيرة السلام في المنطقة. وأياً كانت التسمية، فالقدر الثابت أن العمل جار الآن لإنجاز هذه المهمة من خلال لجنة مشكلة من الجانبين وهو ما أكده كبير المفاوضين السيد صائب عريقات في التصريحات التي بثها تلفزيون «الجزيرة» يوم الأحد الماضي 16/9.

لقد أفاضت الصحف خلال الأسابيع الاخيرة في الحديث عن الأفكار المطروحة للمناقشة بين رئيس السلطة الفلسطينية وبين رئيس الوزراء الاسرائيلي، بل تم نشر صورة مسودة مترجمة من العبرية الى العربية في 11/9، بثتها وكالة «معاً» الإخبارية المستقلة، تضمنت ثماني نقاط ليس معروفا مدى الاتفاق حولها، لكنها عند الحد الأدنى عبرت عن وجهة النظر الاسرائيلية في الموضوع. وقبل أن نتعرض لهذه النقاط لا تفوتنا ملاحظة أن بعض الرموز الاسرائيلية لم تأخذ الحوار الجاري بين أبو مازن وأولمرت على محمل الجد. نشرت صحيفة «معاريف» مقالاً بهذا المعنى كتبه يوسف لبيد نائب رئيس الوزراء وزير القضاء الإسرائيلي السابق، الذي يعد أقرب المقربين إلى أولمرت وأمين أسراره. وفيه قال إنه من دواعي السخرية أن يضيع الرجلان وقتهما على هذا النحو، لأنهما يدركان أنه لن يوجد اتفاق سلام آخر الآن رغم محادثاتهما.. وحتى إذا بقي أبو مازن على قيد الحياة بعد توصله لاتفاق حول قضايا الحل الدائم، فلن يستطيع أولمرت التوقيع عليه، لأن اسرائيل لا يمكنها في الوقت الراهن أن تقدم أي تنازلات للفلسطينيين، لسبب جوهري هو أنه ليس مستبعداً أن تسيطر حماس على الضفة في أي وقت، ومن ثم يصبح إسماعيل هنية رئيساً لفلسطين الحرة. وفي ذلك تهديد مباشر لأمن اسرائيل ووجودها، لا يمكن لأحد أن يقبل به.

وأشار لبيد إلى معضلة أخرى تتمثل في عجز أي حكومة إسرائيلية عن إزالة مستوطنات الضفة. وقال في هذا الصدد إنه لا توجد في إسرائيل ولن توجد في المستقبل المنظور حكومة قادرة على إجلاء ربع مليون أو مائة أو خمسين ألفا من المستوطنين، وهي المشكلة التي لا يمكن حلها ولا يمكن القبول باستمرارها في أية تسوية سلمية.

في مقال تحليلي آخر نشرته «يديعوت احرونوت» للكاتب والمفكر الصهيوني دورون روز نبلوم، أشار فيه الرجل إلى عبثية اللقاءات الجارية، وقال إن كل دعوات أولمرت وأحاديثه، هو وأبو مازن، عن السلام ومشاريعه مجرد كلام فارغ بلا رصيد، لأن من يعجز عن إزالة بيت في بؤرة استيطان لا يمكن أن يزيل المستوطنات. وتحدث الكاتب عن جبن اولمرت عن مواجهة الرأي العام الإسرائيلي وعجزه عن الحديث عما يرى في اللقاءات مع أبو مازن، وقال إن ذلك ناجم عن شعور اولمرت بأنه في النهاية لن يقدم على أي خطوة عملية للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع مع الشعب الفلسطيني، ذلك أنه بعدما اكتوى بنار إخفاقه في حرب لبنان الثانية، أصبح حذراً من الإقدام على أي خطوة في أي اتجاه. أما حنات كريستال كبير معلقي الشؤون السياسية والحزبية في الإذاعة والقناة الأولى في التلفزيون الاسرائيلي، فقد كرر عبارته الشهيرة: حتى لو قام أبو مازن بتقديم رؤوس قادة حماس والجهاد الإسلامي على طبق من فضة، فلن يقدم له اولمرت اي شيء. برغم هذه الأجواء الموحية بانسداد أفق التسوية إلا أننا نجد في مشروع الاتفاق الذي تم نشره مؤخراً تعبيراً عن السقف الذي تتحرك في ظله الحكومة الاسرائيلية، غير المستعدة لتقديم أي تنازلات للفلسطينيين، استنادا إلى إدراكها أن ميزان القوى في صالحها، في حين أن السلطة الفلسطينية في أضعف حالاتها.

من مركز القوي تريد اسرائيل ان تعرض على الفلسطينيين الالتزام بالمبادئ التالية في التسوية النهائية:

* تنهي إسرائيل احتلال الضفة في مدة زمنية متفق عليها (لم تحدد) ويكون الانسحاب وإخلاء المستوطنات (الذي تعجز عنه حكومة اسرائيل) بالتدريج وعلى عدة مراحل (مفتوحة)، وتقوم دولة فلسطينية غير مسلحة (الى جانب اسرائيل النووية!). وتكون حدودها على اساس خرائط 1967 ـ ويجري الاتفاق على حدودها بناء على الاحتياجات الأمنية (لإسرائيل طبعاً) والتطورات الديموغرافية (وجود المستوطنين والمستوطنات) ـ وهو ما سيفتح الباب لتبادل الأراضي في ظل الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية بيد اسرائيل وهي الجريمة المسكونة بالاحتلال والتدليس، لأن إسرائيل تعتبر أن 78% من فلسطين المحتلة أصبح ملكا لها، وأن 22% من الاراضي التي احتلت عام 1967 هي مناطق متنازع عليها، في حين أن اسرائيل التي قامت في عام 1948 محددة بخط الهدنة المحدد في اتفاقيات عام 49، وهذا الخط لا يعد حسب الاتفاقيات حدوداً إلا في ظل اتفاق أو معاهدة يوافق عليها الشعب الفلسطيني من خلال المجلس الوطني الذي يمثله. وحسب القانون الدولي وحكم محكمة العدل الدولية الصادر في عام 2004، فإن وضع الأراضي الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها في عام 67 محسوم تماماً، إذ هي محتلة وليست متنازعا عليها.

وللعلم فإن الكتل الاستيطانية التي تريد اسرائيل أن تحتفظ بها وتضمها الى إسرائيل مقامة على الخزان المائي في الضفة، وهو أكبر 3 خزانات فيها. وتضخ اسرائيل منه 90% من مخزونه الذي يصل الى 550 مليون متر مكعب من المياه سنوياً. وذلك هو السبب الاساسي وراء التعرج في مسار حائط الفصل العنصري، الذي يضم الى اسرائيل الاراضي الخصبة والمياه والمستوطنات.

* في القدس تكون عاصمتان واحدة لدولة اسرائيل وتتبعها الاحياء اليهودية. والثانية لدولة فلسطين وتتبعها الاحياء العربية. وتلك خديعة أخرى، لأن إسرائيل غيرت من الطبيعة السكانية للقدس فوسعت في الاحياء اليهودية، وهشمت كثيرا من الأحياء العربية. الأمر الذي حول وجودها إلى شيء رمزي إلى حد كبير.

* تعلن فلسطين وطنا قوميا للشعب الفلسطيني وإسرائيل وطنا قومياً للشعب اليهودي. وهو نص بالغ الخطورة، يضع أساساً لتقنين عملية التطهير العرقي من ناحية، ويلغي حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم من ناحية ثانية. فالهوية الفلسطينية أساسها المواطنة، أما في اسرائيل فالهوية دينية. وهو ما يعني أن العرب، المسلمون منهم والمسيحيون، لا مكان لهم في اسرائيل. وإنما يجب إبعادهم تباعاً لأن مكانهم في المعازل الفلسطينية المقامة في الضفة وغزة، وهو ما يعني أيضاً أن اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، الذين يتراوح عددهم بين أربعة وخمسة ملايين، لا حق لهم في العودة الى بيوتهم وأرضهم التي طردوا منها، وأن مكانهم الوحيد هو الدولة الفلسطينية، إذ هي وحدها المسؤولة عن استيعابهم.

الغريب في هذا المشروع أن معديه أرادوا إلحاقه بمبادرة السلام العربية، ونصوا في صلبه على أنه متناسق مع مبادئ المبادرة التي طرحتها الجامعة العربية. وأن الجامعة في هذه الحالة مدعوة للقيام بخطوات ايجابية فعالة لتطبيق نص المبادرة بالكامل، وهو نص يقصد به الإقرار بأن إسرائيل أدت ما عليها في الاستجابة للمبادرة، وعلى الدول العربية أن تؤدي الاستحقاق الذي حددته المبادرة وهو التطبيع مع إسرائيل!

هكذا يتجلى الاستعباط في المشروع، الذي تريد اسرائيل منه أن تصل الى التسوية الشاملة، وتقيم علاقات طبيعية مع كافة الدول العربية. وإذ أدري أننا ما زلنا بصدد مشروع، وأننا لم نعرف أن الطرف الفلسطيني وافق عليه، إلا أن ما نعرفه جيداً أمور عدة، أولها: أن إسرائيل أدمنت الأخذ دون العطاء، وتحقيق المكاسب المجانية في كل مراحل حوارها السياسي مع العرب. الأمر الثاني أن اسرائيل في وضع استراتيجي مريح نسبياً، حيث لا توجه أية ضغوط تضطرها حتى إلى الالتقاء في نقطة وسط مع الطرف الفلسطيني، في الوقت ذاته فإنها تدرك جيداً أن أبو مازن في موقف ضعيف للغاية، وأنه بات يعول على الوعود الأمريكية وحسن النوايا الإسرائيلية.

الأمر الثالث أن القادة الإسرائيليين مطمئنون إلى التأييد الأمريكي لهم. كما أنهم مطمئنون الى أن الموقف العربي لم يعد عنصرا متعلقا بهم، خصوصاً بعدما جرت محاولة تقسيم العرب الى معتدلين ومتطرفين.

الطريف في الأمر أن أولمرت نفسه في موقف ضعيف أيضاً. والكتاب والسياسيون الاسرائيليون الذين يعتبرون مباحثاته مضيعة للوقت، وأنه أعجز من أن يخفي بيتاً في بؤرة استيطانية الأمر الذي يجعله أشد عجزاً

حتى من باب التمويه، هؤلاء لم يخطئوا، وإنما كانوا يقرأون الواقع الإسرائيلي الراهن كما هو، وليس كما يتخيله المفاوضون.

لقد كان طبيعياً والأمر كذلك أن يستشعر المصريون والسعوديون مدى العبث في اللعبة الجارية، وأن يرجحوا فشل المؤتمر المرتقب الذي دعت إليه الولايات المتحدة، لأن كل الشواهد دالة على أن اسرائيل ليست جادة في حل القضية، وغير مستعدة لدفع ثمن السلام، ومصرة على أن تأخذ كل شيء ولا تعطي سوى كلمات معسولة ومطاطة. وحينما قررت الدولتان أن هذه الأجواء لا تسمح لهما بالمشاركة في المؤتمر، فقد كان ذلك إعلاناً عن رفضهما أن يصبحا شهود زور في قضية خاسرة.