التفكير في التجربة التركية مرة أخرى!

TT

يعرف الكثيرون من المهتمين بالسياسة والفلسفة السياسية كتاب الفيلسوف اليوناني أفلاطون «الجمهورية» الذي أقام فيه «المدينة الفاضلة» التي اعتبرت بحق أول «الطوباويات» في الفكر السياسي. ولكن المتخصصين يعتبرون كتابه «القوانين» هو أول الكتب «السياسية» بحق لأنه يتعرض لإدارة الدولة والجماعة السياسية من خلال القوانين التي هي الفارق الأساسي بين الدول والجماعات «المتحضرة» والدول والجماعات «البربرية». وبدون الدخول في كثير من التفاصيل فإن الكتاب يتعرض لمصدر القانون، ولكيفية إصداره وتغييره، باعتبار ذلك هو جوهر العملية السياسية.

وبالطبع فإن هذا المقال ليس حول فلسفة أفلاطون السياسية، وإنما ما كان لافتا للنظر فيها وله انعكاسات على حياتنا السياسية المعاصرة في العالم العربي. فقد كان لافتا للنظر في هذا الكتاب تلك المناقشة التي جرت فيه حول مصدر القانون وعما إذا كان هو «الله» أو «الإنسان» و«القيم» الحاكمة في عملية إصدار القوانين وعما إذا كانت هي الاعتدال أو الحصافة أو العدالة وغيرها من القيم السياسية. والحقيقة أن كلا السؤالين مترابطان، فلو لم يكن الإنسان هو مصدر القانون، لأنه في النهاية الذي سوف يصدره متشحا برؤاه وتفسيراته واجتهاداته، لما كان ضروريا البحث عن القيم المحركة له في الرؤية والتفسير والاجتهاد. وضمن هذه القيم المتعددة الأهمية وضع أفلاطون على لسان صاحبه «الأثيني الغريب» أن الاعتدال هو أهم القيم السياسية على وجه الإطلاق.

وهنا على وجه التحديد تأتي إلى مائدة البحث التجربة التركية في «اعتدال» الإسلام السياسي، بل واعتدال كافة التيارات السياسية ـ الماركسية والقومية والليبرالية ـ في العالم العربي التي تترواح كلها بين أشكال متطرفة من الغلو والشطط وعنيف الحديث، وتجاوز اللفظ. فما يبدو مرضا ذائعا في الكتابات السياسية العربية على وجه العموم هو أن فكرة الاعتدال ذاتها من الأفكار المرفوضة والمذمومة التي لا تحترم «الثوابت القومية» والمبادئ الوطنية والهوية والخصوصية؛ وعندما يتم التعرض لها فإنها تأتي في إطار استهجان الاستخذاء والخنوع والخضوع، وفي كلمة واحدة «الانبطاح» أمام تحديات هائلة. ولكن ما حدث في تركيا جرى من قبل في العالم الغربي كله، عندما توصلت التيارات السياسية المختلفة ـ الدينية والقومية والمحافظة والليبرالية ـ إلى نقطة اتزان وفرها «الاعتدال» المتوافر في كل جماعة سياسية بحيث باتت على استعداد للدخول والخروج من السوق السياسية التي تسودها المنافسة تماما كما تخرج وتدخل البضائع والسلع إلى السوق الاقتصادية.

وهكذا يصبح السؤال عن ماهية الشروط التي تجعل مجتمعا من المجتمعات قادرا على إفراز هذه النوعية من الاعتدال، ولماذا ـ على سبيل المثال ـ تتمكن تركيا من إفراز حزب العدالة والتنمية ـ صاحب المرجعية الإسلامية ـ الذي يحتفل بالعمل في إطار علماني ليبرالي، بينما جماعة الإخوان المسلمين فى مصر تفرز برنامجا سياسيا يطالب بولاية «الفقهاء» على السلطة التشريعية أى بتغيير طبيعة الدولة الحديثة في مصر لكى تحل محلها دولة دينية كاملة الأركان. هنا فإن الفارق الأول بين الإخوان في تركيا وفي مصر أنهم هناك استوعبوا تماما تجربة الحكم الديني المعاصرة كما جرت في السودان وإيران، وبالتأكيد فى صورها المتطرفة في أفغانستان. ففي هذه التجارب لم يكن الفشل راجعا إلى التدخل الأجنبي كما يعتقد الإخوان في مصر، وإنما بالنسبة للإخوان في تركيا فقد كان راجعا إلى فشل في إدراك قدرة الدولة المدنية على التقدم والتغيير بما فيها خلق الظروف الملائمة لتحقيق مقاصد الدين والشريعة، والمبالغة بالمقابل في الاعتقاد بقدرة الدولة الدينية على تحقيق معجزات اقتصادية واجتماعية.

هذا التقدير «المعتدل» كان نتيجة لتطورات جرت خلال العقود الماضية كان مؤداها أن الديمقراطية التركية ـ مع كل عيوبها الناتجة عن التطرف العلمانى ودور العسكر ـ إلا أنها خلقت تقاليدا من احترام القانون وأحكام المحكمة الدستورية العليا والانتخابات النزيهة وتداول السلطة وكلها جعلت المواطن التركي، المؤمن وغير المؤمن، أكثر اعتقادا في نسبية أفكاره وآرائه، وهذه أول مقدمات الاعتدال. وعلى الجانب الآخر فإن التنمية التركية التي تمت خلال نفس الفترة جعلت المواطن التركي ليس شريكا فقط وصاحب مصلحة في عملية سياسية مستقرة وإنما أيضا في العملية الاقتصادية التي وسعت من نطاق الطبقة الوسطى المدنية الصناعية التي هي شرط أساسي للاعتدال ومن ثم توسيع النطاق الديمقراطي ليس فقط لتحقيق المنافسة بين تيارات سياسية مختلفة، وإنما أيضا تحقيق الكفاءة للنظام السياسي كله.

والحقيقة أن مثل هذه التجربة لم تكن تخص تركيا فقط، بل انها كانت تجربة كل الدول التي تحولت إلى الديمقراطية والتقدم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من أول تجربة إسبانيا والبرتغال في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى تجارب أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا مع نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الواحد والعشرين. وربما كان ذلك هو مكمن التطرف في الحالة العربية، فالتقاليد الديمقراطية من سيادة للقانون وتداول للسلطة ونظافة في الانتخابات كانت غائبة طوال هذه العقود، وحتى ما كان موجودا منها خلال النصف الأول من القرن العشرين في عدد من الدول العربية فقد تم إلغاؤه ورفع الشرعية السياسية والأخلاقية عنه من خلال أشكال مختلفة من الثورة والانقلابات العسكرية.

ولكن ما كان أهم من التقاليد الديمقراطية فقد كان غياب التقاليد التنموية التي تولد المصلحة التي هي في النهاية مصدر «الاعتدال» في الحياة السياسية. فمن ناحية فإن الدول العربية «الثورية» و«الاشتراكية» أقامت نظما اقتصادية تقوم على هيمنة الدولة وسيطرتها على حياة الناس، ومن ثم فإنها لم تخلق الطبقة الوسطى الصناعية المدنية ذات المصلحة في المشاركة المعتدلة، وإنما خلقت طبقة وسطى من الموظفين القابلين للتعبئة السياسية المتطرفة في كل الأوقات. ورغم الاختلاف في أمور كثيرة فإن الدول العربية التقليدية المحافظة التي اعتمدت على ريع النفط في تنميتها فإنها بدورها توسعت في بيروقراطيتها بنفس الطريقة التي توسعت بها الدول "الاشتراكية"، وكانت النتيجة مماثلة من انتشار للتطرف والغلو لأن الداء كان واحدا، والبنية الاقتصادية والاجتماعية لم تختلف كثيرا.

وهكذا يبدو مفتاح التطور العربي السلمي نحو التقدم السياسي والاقتصادي محكوما بمجموعة من الشروط الأساسية التي يمكن اشتقاقها من التجربة التركية يقع في مقدمتها التنمية الاقتصادية القائمة على اقتصاد السوق والتصنيع والارتباط بالأسواق العالمية في التجارة والاستثمار. فبدون المواطن الذي يجد للحياة معنى من خلال مشاركته في العملية الإنتاجية والاستهلاكية، فإننا على الأرجح سوف نجد مواطنا متطرفا رافضا للاعتدال وأحيانا محبا للموت.

ولكن هذه المقدمة هي التي تخلق فضاء للاعتدال لا يملأه إلا فكر سياسي يستوعب هذه اللحظة ويترجمها إلى برامج وحركة سياسية. بمعنى آخر فإنه لا يمكن هنا التقليل من دور أفراد مثل أردوغان وجول اللذين كان عليهما السباحة ليس فقط ضد تيار التطرف العلماني في البلاد، بل أيضا تيار التطرف داخل الجماعات الإسلامية ذاتها والتي كان كثيرا منها لا يزال أسير هذه اللحظة الانتقالية من التغييرات فى تركيا. ويبدو أن هناك فى المغرب من أخذ الدرس ويعمل على تطبيقه في ظل ظروف مختلفة، ولكن في بقية العالم العربي فإن الصورة لا تزال قاتمة حيث لا التنمية تسير في طريقها المأمول، ولا الاعتدال يجد لنفسه مكانا بين التيارات السياسية !.